تحسين يقين
2023-08-19
“الى إحسان عبد القدوس”
—
ما زلت أذكر تفكيري بزيارة الكاتب الراحل إحسان عبد القدوس، خاصة بعد ان قرأت مقابلة معمقة أجراها الكاتب الراحل د. غالي شكري في مجلة “الوطن العربي” التي كانت تصدر في باريس، والتي شهدت بدايات كتاباتي حين كنت طالباً في مصر. لكن للأسف يرحل إحسان عبد القدوس الجميل، كان ذلك أوائل عام 1990، لأنشر عنه قصيدة مرثية كل ابياتها من أسماء قصصه ورواياته
لماذا فكر الفتى الذي كنت بزيارة كاتب كبير؟
كان ذلك مزيجاً من الفكر والأدب والسياسة، والتي كانت منطلقاتها لدى عبد القدوس إنسانية ووطنية وعروبية
الإنسانية..التزام وجودي، ووطني وقومي وعالمي، أما البدء فيبدأ من النفس فالبيت، أما الوطن فهو ناظم كل هذا الجمال والسلام
بنظرة من القلب والعقل، فإنه من السهل حل الكثير من القضايا والنزاعات؛ فكلاهما معاً، قادران، بوجود مايسترو محب حنون عقلاني
هما عالمان: عالم السياسة وعالم العاطفة، قد نقدم الواحدة على الأخرى، لكن لا مناص من وجودهما، فالنفس في هذا المحيط الإنساني، وطنياً وقومياً وعالمياً. وسلام في النفس- القلب قد يعمق سلام الدنيا، وسلام الدنيا يخفف من مآسي القلوب
ولدت في هذا الصراع، وولد أبي، مائة عام مرّت أو يزيد، وولد أولادي، ولعل الأحفاد قادمون، وهكذا سارت بنا وبهم الحياة؛ ففي منتهى الحرب كان منتهى الحب، وكانت الأجيال تتوارث السهام والقلوب
كيف يمكن لإنسان رومانسي ودود أن يتحدث في السياسة؟ وكيف لسياسي أن يتحدث في الحب؟
الحقيقة أن هذا أمر عاديّ جدا
من الكتاب المشهورين الذين كتبوا في السياسة والحب، الكاتب إحسان عبد القدوس، الذي ترأس تحرير مجلة روز اليوسف شابا، التي أسستها والدته فاطمة اليوسف، وهو نفسه كاتب الروايات التي تحولت معظمها الى أفلام سينمائية
قبل رحيله، كنت أتبع مقاله الأسبوعي في جريدة الأهرام، تحت عنوان “على المقهى السياسي”. كان وقتها عبد القدوس كاتباً ثمانينياً، أنيق الكلمة، بأسلوب جميل وواضح. في مقاله دوماً التزام وطني عقلاني بقضايا بلده، والتزام قومي، وكان من المحبين الأصيلين لفلسطين
استخدم عبد القدوس في مقاله أسلوب الحوار: قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى، رداً على سؤال لتلميذه الفتى، ولعله اشترك مع دكتور طه حسين في كتابه “جنة الشوك”، حيث استخدم حسين هذا الأسلوب، في كتابه المذكور، والذي جمع الخواطر الفكرية التي تميزت برمزية ناقدة
هل سأجدني اليوم مقلدهما، أم باحثاً عن هكذا أسلوب حواريّ؟ لا بد أن كليهما قرأ كتاب كليلة ودمنة الذي ترجمه عبد الله بن المقفع، وانتبها للجملة التي تكررت: قال دبلشيم الملك لبيدبا الفيلسوف
لعلي في مرحلة بين مرحلتين، ما بين الفتى والعلم، فكل منا فتى وطفل أمام الحياة، ولي أن أنقل ما تعلمت، وفي المجمل لا بد من هذا الحوار
واليوم وجدتني أقول لنفسي، أحاور فيها العقل والقلب، في قضايا شخصية وعامة؛ فالوجودية النبيلة هي من تجعلك شخصياً في العام، تتعامل مع محيطك الوطني كأنه بيتك. كذلك مهما انغمست بنفسك، بهمومها واهتماماتها، فإن ذلك لا يبعدك عن العام الوطني والقومي والإنساني
في يوم، اعتلى شخص منصة في حديقة فارغة، وراح يخطب في أناس تخيلهم، واندمج في دوره، فأفاض واستفاض، وعلا صوته، وحين التفت الى الجهة الأخرى، وجد عشرات من زوار الحديقة وقد تجمعوا يسمعونه، دون أن يدري، فبادروه بالتحية والتصفيق
كان يخطب وحده، كان همساً لذاته ثم صارت الهمسات خطبة، فلعل كل منا حين يهمس لنفسه، نصغي له، فنشعر بحرارة المشاعر والأفكار
قبل فوات الأوان، كم نضيّع كأفراد وشعوب الوقت والمال والعواطف؟
“مش محرزة يمّا”، هكذا كانت والدتي رحمها الله تعلق على النزاعات مهما كان نوعها، فقد كانت دوما تعتقد أن الأصل هو صفاء النوايا، وأنه دوما هناك مجال للتصالح، والوصول لحلول بعيدا عن العنف الكلامي والنفسي والمادي
أنظر في نفسي، ونفوس المحيطين بي، وأنظر في خارطة الأوطان والدنيا، فأجدني فتى رومانسياً محباً، وأجدني شيخاً يودّ تجنيب الجيل الجديد من بعثرة الوقت وعدم استغلاله إنسانياً واقتصادياً واجتماعياً؛ فمنهم من يسمع ومنهم من يصغي ويستمع، ولكن القليل منهم من يستفيد من التاريخ الشخصي والعام
– الحكمة يا فتى
– والتجربة يا شيخ
يحرص الشيخ على إكساب الفتى الحكمة، لكن الفتى يجد نفسه، رغم تقديره للشيخ، مؤثرا للتجريب، ذلك قدر البشر؛ أن يتعلموا من تجاربهم أكثر من الكتب
على مستوى الفرد، والأسرة والوطن، من الممكن جعل المشاكل صفر مشاكل. وإن ظهرت مشكلة، فليكن لسان حالنا: لكل مشكلة حلّ
يصعب العيش في ظل القلق والنزاع، فلا أحد يستفيد، والكل خاسر، ووحدها القلوب الطيبة، هي التي تنجينا، تلك القلوب المتسمة عقول أصحابها بالحكمة
كل ونفسه، وكل وأسرته، وكلنا والوطن، جامعتنا معاً، في ظل طموح وحق لنا وواجب علينا بأن يكون المنحى هو الخلاص العام
فحين يا فتى نتحدث عن أية قضية في المجتمع والحكم، فإن الفصل فيها هو مصلحة الوطن العليا. وحين يا شيخ نريد أن نستأنف أمراً ما، فلعلنا نطمئن الى أرض صلبة تحت أرجلنا لا أرضاً رخوة
لتبحث أميركا عن مصالحها، والصين والدول الكبرى، ودول المنطقة في ظل هذا التنافس على الموارد والأسواق، وليشجعوا اتفاقيات سلام أو نزاعات على أراض بعيدة عنهم، هكذا حال الدول، ولكن نحن لنبحث أيضاً عن مصلحتنا في عدم الدخول في تحالفات لا تفيد، مركزين على حق تقرير المصير لشعبنا، وكافة حقوقنا السياسية
في ظني أن المعرفة كنز، وأن الإنجاز الوطني هو كنز الكنوز. أما الوعي والحنان والمحبة والمشاعر الإنسانية، فهي ضمان لنا بمتابعة الحياة، حتى لا نتوه في الانشغالات التي لا تفيد
المدرسة، والمدارس عنوان الاستقرار في أي مجتمع، ولا أظن أن ضمان أريحية التعليم أمراً خارقاً، فيمكن فعلاً عمل اختراقات وإنجازات تشكل قاعدة صلبة تحمي المنجز التعليمي
المركز الطبي والمستشفى، المزرعة والمصنع، المؤسسة والشارع، كل وما يمكن من إبداع، وليس في هذا اكتشافا، فوجود إرادة العمل بشغف، سيسهل الكثير. وما يحدث في المجتمع فإنه يحدث في الأسرة
قال الفتى لنفسه، ووجد الشيخ يقول لنفسه أيضاً، فالطريق واضحة المعالم، لمن أراد الإنجاز على أي مستوى، فتحقيق التطور، ممكن إن أردنا وإن صفت النوايا
كلما مررت بالزمالك تذكرت إحسان عبد القدوس في شرفة هناك، لم يحالفني الحظ الجميل لألتقي به، وأخبره بأننا نوينا في الكلية تكوين جماعة أدبية باسمه، ولنا أن نكمل الطريق، مستلهمين إنسانية من سبقونا ورحلوا، ولكن بقيت الكلمات تنبض بالحياة
“مش محرزة يمّا”، كلمات والدتي رحمها الله، طريق للسلام والمحبة، وما أحوجنا في الوطن-البيت لتلك الروح
غرفة 19
- إنسـان فيتـروفيـوس- للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1487
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم