_لا يقول الأدب شيئا لمن هم راضون بما لديهم” ماريو بارغاس يوسا.
لكل رواية أبواب تطرق حتى يتيسر الولوج إلى عوالمها. وعتبات الدخول إلى هذا النص متعددة. ستأوقف عند العنوان لوحة الغلاف والإهداء وصولا إلى التصدير
* لوحة الغلاف : بين ماء وسماء اصطبغا بنفس اللون؛ زرقة قاتمة يشوبها السواد وينذر بالوحشة ينتصب إلى اليمين رجل يدثره السواد مول وجهه ووجهته شمالا .. رجلاه ثابتتان هنا وبصره مشدود إلى الهناك.. وإلى اليسار يميل حطام مركب يبدو أنه ناء بحمله وأنهكته الأمواج العاتية فاستسلم لقدره… وبين عتمة الماء وعتمة السماء لاحت فجوة شحيحة من ضياء..حلقت بها طيور متفرقة..طيور سوداء أيضا على عكس ما ألفنا .. لم تكن السماء زرقاء صافية و لم يكن البحر هادئا ولم نر نوارس بيضاء تحلق. مشهد يبعث على الوحشة والخراب وينبئ بمصير مجهول لهذه الطيور التي قررت الطيران رغم النوء…فهل تراها تبلغ مرافئ آمنة أم ان السماء والماء سيسطران أقدارا مغايرة,؟..
*العنوان: مقبرة الغرباء” جاء بحروف غليظة وبلونين مختلفين تقتحم كالة السواد ويضيء الأحمر القاتم في لفظ الغرباء منبها منذرا. ورد العنوان كعلامة لغوية تعلو النص وتسمح بمقاربته واستقرائه وتفسير دلالاته وتسهم في رسم أفق التوقع لدى القارئ فهو مرآة عاكسة لمضمونه مركبا إضافيا يفصح عن علاقة تلازم بين لفظ المقبرة وماتحمله من معاني الموت الحقيقي والنهايات والحزن والفناء و لفظ الغرباء بما في الغربة من موت ضمني نفسي ..عنوان مستفز يفتح باب التاويل على مصرعيه مركب يحيلنا لفظا إلى مكان بعينه أثار منذ فترة ضجة واسعة في جنوبنا المنسي..مكان يشعرنا بالخوف والتوجس لما التصق به من معجم الحرقة والتهميش والجريمة والفقر.
ايحاء سيؤكده الكاتب في الفصل الأول حين تتواتر القراىن النصية فيدفن ” البرني” بهذه المقبرة التي اعتبرها ابنة البحر الذي يتكفل بتوفير الزاد لها كلما غرق مركب ولفظ البحر الجثث على شواطئ هذه المدينة الحالمة…وقد تطوع أحد السكان وشيدها ليجمع فيها جثامين من انتهت رحلتهم قبل بدايتها” ..لكن السارد يخاتلنا و لن يعود لذكرها ببقية الفصول بل إنه نوع الأمكنة ونقل الأحداث إلى الضفة الأخرى ليفتح قبورا أخرى كأنه يقول بأن ال “هناك” هو المنفى و هو المقبرة الحقيقية والثقب الأسود الذي سيتسع ليلتهم أحلام وأعمار كل من تمسكوا بوهم ” الجنة الموعودة”.
*الإهداء: لم يكن بالرواية مجرد تقليد دأب عليه الكتاب منذ بدء التاليف. إنما حمل خاصية تستدعي الدراسة لما سيساهم به في إنارة النص وبعض ماتعتم من مضامينه. ” إلى روح أخي الذي قتلته الحكومة المتهاونة..وإلى كل الذين ماتوا بسبب الوباء اللعين. لمن قتلوك بيني وبينكم ثأر لا يسقط بالتقادم…”
تهديد وتوعد جاء بلهجة مباشرة صدامية ينبئ عن حزن دفين وألم وغضب سيتردد صداه بين فصول الرواية وستنطق به الشخصيات على اختلافها.
*التصدير: انتقى الكاتب لكل فصل من فصول الرواية تصديرا شعريا. لشعراء اتسمت كتاباتهم بالحداثة والتمرد. لا على انماط الكتابة الإبداعية فقط بل وعلى الانظمة المتحكمة في الرقاب. ولعل أهم مقتطف كان للشاعر مظفر النواب ومن لا يعرف نصوصه السياسة التي عرفت بمقاومة الظلم والقهر والديكتاتورية المقيتة.
يقول” وطني انقذني .. رائحة الجوع البشري مخيفة” ..
هذا الاستدعاء لنصوص شعرية مختلفة من أزمنة وأمكنة مختلفة( ع الرحمان الأبنودي/ على لسود المرزوقي/ مكرم الصويعي/ هندة محمد…) وإن أحالنا على نصوص أخرى لما حققه من تناص زاوج بين النثر والشعر وجعل العلاقة بينهما متكاملة متماهية مؤكدا بالضرورة أن الكتابة هي حدث شعري بالأساس. فإنه حقق برأيي بعدين. الأول هو تسليط نقاط ضوء وفتح نوافذ نطل عبرها على النص الروائي لأن هذا الانتقاء لم يكن عفويا بل نتيجة بحث واختيار.. وكل اقتباس يخفي رؤية و يضمر تصورا لذلك أعتبرها نصوصا موازية تتنادى لتجسر العلاقة بينها وبين المتن تختزله حينا أوتشي به أحيانا. أما البعد الثاني فهو تعزيز النص وفك عزلته وإضفاء دينامية جديدة قد تحفز القارئ على البحث عن النص الأصل وكيفية هجرته من سياقاته إلى سياقات جديدة ومن زمنه إلى أزمنة أخرى..كما يشي بنزعة تجريبية تفتح جنس الرواية على بقية الأجناس الإبداعية..
أما مضمونا فقد عبرت هذه التصديرات في مجملها عن الحزن والانكسار الموصول بخيبة أمل وموت للأماني في مواطن . كما عبرت عن الرفض والتمرد في مواطن أخرى. مما يجعل النص الروائي يطل بالضرورة على مناخات الرفض فالسارد سيكشف عامدا فساد الأنظمة وكذب الساسة ونفاق المتملقين.
*** العتبات النصية بمقبرة الغرباء التاويل والدلالة***
يكتب الراوي نصه لا لأجل التسلية وتجزية الوقت بل كانت حروفه صرخات ألم واحتجاج وغضب ورفض وتصادم مريع. إذ تعيش الشخصيات صراعا ملحميا مع ذواتها ومع الآخر مع المجتمع والأنظمة في زمن ظالم أبى إلا أن يقبر أحلامهم البسيطة و أفراحهم الصغيرة ويسوقهم قسرا إلى مدارات التشظي والاغتراب والموت بأنواعه.
**دلالات الأسماء**
ولد الحفيانة / كماتشو/ الزقية/ البرني) هي كنى لابطال هذا النص جمعتهم تفاصيل ال هنا: من فقر وبطالة وموت بطيئ ووحدهم حلم ال هناك بما يلوح به من غنى وعمل و حياة هانئة. كائنات أوجدها خيال الكاتب وزرع بذورها بتربة النص فنفخ فيها السارد روحا وبث فيها حلما ..تطحنها رحى الحياة القاسية..أبدع الكاتب في رسم ملامحها وتصوير أفعالها وأقوالها حينا والولوج الى اعتمالات عمقها النفسي أحيانا.. ترصد الرواية حياة هؤلاء الفتية المنسيين كناية عن كل الذين يعيشون على تخوم الحياة وعلى حافتها ينهشهم الفقر والبطالة وتدفعهم الحاجة الى الاختلاس والسرقة والعنف والجريمة..تصور معاناتهم وتحتفي بتفاصيلهم المهمة .. فإلى أي مدى سيحقق أسئلتهم الحقيقية و يوصل صدى احتجاجاتهم ضد القهر الاجتماعي والتمييز العنصري والحيف الطبقي والاستغلال الممنهج.؟؟ وهل نجح في كشف حقيقة اغترابهم وموتهم ؟
** دلالة المكان **
الرواية وإن اوحى عنوانها بأنها رواية المكان فإن المتن يؤكد بأنها رواية الإنسان .. ذاك الذي عاش اغترابا في موطنه فتعمقت الهوة بينهما ليقرر الهروب..والارتحال الى الضفة الأخرى..فإذا بالغربة تتسع والقبر يضيق اكثر.
فمن “واد القمح” الذي صار ( واد غير ذي زرع) باستيلاء غالب وغريب على أراضيه ومصادرة خيراته إلى موانى لمبيدوزا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من مدن الضفة الأخرى يتسلل الالاف سنويا في رحلات سرية عبر قوارب الموت.. هو هروب الجنوب تجاه الشمال .هروب الشرق نحو الغرب.هروب الهامش نحو المركز..فتغدو قرية واد القمح بمختلف تناقضاتها صورة مصغرة عن أغلب الدول العربية والافريقية الرازحة تحت نير الظلم والتخلف والتهميش والاستغلال. يطمح جل سكانها في القفز عن ظهر مركبها المترنح نحو شواطئ تغري بالأمان.. فيحاولون بذل الجهد والمال والأرواح في سبيل حلمهم بتجاوز هامش الحياة والوصول إلى رتبة مواطن بذاك المركز….حلم مني باخفاقة مدوية بالرواية و يطرح عميقا سؤال الهوية.. فالبرني مثلا ذاك الطائر الذي حلق به جناح الحلم في سماء غير سمائه ليصل إلى أرض غير أرضه لم تشفع له جرأته ولا شجاعته ولم يقو على الصمود فسريعا ما يكسر جناحه لتلفظه تلك الأرض الغريبة على متن جناح اصطناعي ..يكنسه الغرب ويبعده المركز حين اختل توازنه وفقد البوصلة. ليعود الى الجنوب ..الى الشرق الى الهامش الذي أنكر عليه تمرده ومحاولاته للهرب ولم يغفر له انشقاقه عنه فتركه..ليموت وحيدا على بقعة من بقاعه..ويدفن في مقبرة للغرباء..فيستسلم البرني لذلك الثقب الأسود يبتلعه… كأن الكاتب يقول بأن هذه الذوات مهددة بالتدجين محكوم عليها مسبقا بالتبعية والرضا برتبة الهامش
فيدين التاريخ والثقافة إدانة يصوغها بوعي حاد وينجح في كسب تعاطف القارئ ولفت نظره إلى تيمات عدة وأسئلة حارقة تؤرقه.
ألا يحق لهؤلاء التواجد بأماكن غير أماكنهم؟ وأن يرتقوا بنزاهة درجة في سلم التراتب المجتمعي؟؟ ألا بحق لهم ذلك حتى في الأحلام؟؟
ومن هموم ابن البلد البسيط يعبر الكاتب عن هموم وهواجس الكائن البشري أينما كان ..فالأسماء تحمل رمزيتها التي جسدت صورة الرفض والصراع بين ابن الحفيانه والزقية وكماتشو ضد وطن اختزله غالب وغريب..فبات سوطا مسلطا على الرقاب كرس قطيعة ستتجلى في فعل الهروب .لكن أين المفر ! أبطال دونكيشوتيون سعوا لمحاربة طواحين الهواء بحثا عن هوية وحقيقة وحلم فتمزقت بهم السبل بين الشمال والجنوب..
ولعل نقطة الضوء الوحيدة وسط هذا السواد هو ما نشأ بين هؤلاء العابرين الذين وحدهم الحلم ووحدهم المصير من صداقة وألفة جعلتهم يرأفون لحال بعضهم البعض فيبحثون عمن فقدوا حين تشتت شملهم وتفرقت بهم السبل ومنحوا لبعضهم الاهتمام الصادق واللمسة الحانية حين نهشهم برد المنافي..
** الكتابة الإبداعية رؤية وأداة تغيير**
بالنص تراءت هموم تشغل الذات الكاتبة وتقض مضجعها وتملؤها بالكثير من المرارة والألم ..منها قضايا وجودية مؤرقة ومنها قومية شائكة ومنها انسانية عامة تمس المصير الإنساني في عالم يحكمه قانون الغاب . هموم أفضى بها الكاتب في روايته كأنما ليتخلص من عبء يعانيه ذاتيا وموضوعيا محليا وقوميا وإنسانيا.. وإذا عدنا إلى زمن كتابة الرواية وعرفنا بأنها كتبت في زمن انتشار وبناء الكورونا وما احدثه بالعالم من خراب ..لن نستغرب هيمنة تيمة الموت التي وان طغت على الرواية فإني أراها تتجاوز بعدها المادي المحسوس إلى موت رمزي هو موت الضماىر والنفوس وموت القيم والاخلاق وسقوط القوانين والتشريعات..انحياز الكاتب الى الفئات المهمشة ومعانقة قضايا واقعه هو انتصار للمستضعفين وللانسان المقهور الذي وجد بين فكي قوتين ..قوة القدر القاهر وقوة البشر الظالم وان تخييلا بجعلهم ابطالا على الورق… الموت كان هو القدر المتربص بأبطال الرواية..حين عجز السارد عن تحقيق التوزبع العادل للحياة وللثروة وللسعادة وللأمان ينصفه الوباء الذي حقق توزيعا عادلا الموت. فيقول في ص. 19:” هذا الوباء اشتراكي يؤمن بالتوزيع العادل الموت “/ ويضيف:” سنوات من التمييز بين الناس والجهات أسقطها الوباء..”..
تصوير شعري للموت..وتلك وظيفة الإبداع..تجميل القبح..بتصويره بطريقة مؤثرة وليس أدل على ذلك من وسم أحد فصول الرواية ب” العشاء الأخير” وما قد يحمله هذا الرمز من تأويلات.. تجميل لا يكون الغرض منه التطبيع مع هذا القبح ..بل دعوة الى دراسته ومزيد البحث في اسبابه العميقة وأيجاد الحلول الجذرية له
خاتمة:
العنوان و لوحة الغلاف والإهداء والتصدير وأسماء الشخوص والأماكن مثلت نصوصا جانبية أو نصوصا موازية طيعة..انقادت الى المتن وعضدته ووشت بالكثير من ملامحه. أما نص المتن فقد تواشجت به القصص واختلفت وتنوعت لتصب في قالب فسيفسائي..وإن مثل لوحة لامست المجتمع بمختلف ارتساماته الواقعية والذهنية والنفسية فإنها اخرجته في قالب إبداعي مبتكر. ولأن القبح لا يصور فنيا إلا من أجل نفيه جماليا ولا يتم الإيغال في تجسيده إلا لبيان هول كارثيته وضرورة تجاوزه ولو تخييلا. وجب أن تضطلع الكتابة بوظيفتها كاداة كشف وتعرية على أن ترفدها بقية الفنون.
نجاة نوار/6 جانفي 2024
دراسة متقنة دقيقة تمكنت بواسطتها الناقدة الى النفاذ الى أهم مفاصل النص واحاطت بمختلف مسارته واناحت لمن لم يطلع على النص استيعاب المقصود لذكاء وفطنة…كما جاءت ملاحظاتها على نقاء وصفاء كبيرين خالص التحية ودوام القراءة الفنية الدقيقة الدافعة المشوقة لاستطلاع النص…
تحياتي لمروركم