الكاتب يوسف طراد
من المسلّم به، أنّه علينا تحاشي الضياع على سبلٍ مضلّلة منذ خطواتنا الأولى. فيا سعد من قُسم له أن يقرأ ويفهم سفر راعوث، ويا سَعدَيْه من فَهم وعُمِّد بالحبر
راعوث الموآبيّة كنّة نعمة، تعود قصّتها إلى زمن غابر، يتحدّث عن نسل السّيد المسيح، زمن كان القضاة يقودون شعب إسرائيل
حكمة الرّب تجلّت في سَفَر أليمالك مع زوجته نعمة من أرض بيت لحم إلى أرض موآب، بسبب الجوع في الأرض. فكان أن توفيّ أليمالك وإبناه محلون وكيلون، وبقيت نعمة مع كنّتيها عُرفة وراعوث في تلك الأرض
عزمت نعمة على الرجوع إلى أرض بيت لحم، وأبت أن تعيد كنّتيها معها، “أرى أن ترجع كلُّ واحدة منكما إلى بيت أمّها، والرّب يحسن إليكما كما أحسنتما اليَّ وإلى الذين ماتوا، ويُسهّل لكما أن تجدا راحةً، كلُّ واحدة في بيت زوج لها” (را. ١: ٨- ٩)
رفعتا كنّتيها أصواتهما بالبكاء، وودّعت عُرفة حماتها بعد أن قبّلتها، أمّا راعوث أبت أن تفارقها، “لا تلحِّي علىَّ أن أتركك وأفارقك. فأنا أينما ذهبت أذهب وأينما أقمتِ أقيم. شعبكِ شعبي وآلهكِ إلهي”، (را. ١: ١٦)
دخلتا نعمة وكنّتها راعوث أرض بيت لحم في زمن حصاد الشعير، فقالت راعوث لحماتها: “دعيني أذهب إلى الحقل لألتقط سنابل وراء من ينظر الىَّ بعين العطف” (را. ٢: ٢). فألهمها الرّب أن تدخل حقل رجل غنيّ يدعى بوعز، وهو من عشيرة أليمالك زوج نعمة المتوفي. فرآها بوعز وأحسن معاملتها، 《فسجدت على وجهها إلى الأرض وقالت له: “لماذا نظرت إليَّ بعين العطف وأنا غريبة؟”》(را. ٢: ١٠). فأجاب بوعز: “سمعت بكلِّ ما صنعته مع حماتك بعد وفاة زوجك” (را. ٢: ١١)
عادت راعوث مساءً إلى حماتها ومعها نحو قفّة من شعيرٍ كانت قد التقطتها من وراء الحصّادين وأخبرتها عن حسن معاملة بوعز لها. فعزمت نعمة على إيجاد بيت لكنّتها تجد فيه خيرها، فأوعزت لها أن تغتسل وتتطيّب وتنزل بيدر بوعز وأن لا تظهر له إلّا بعد أن يفرغ من الطعام، 《”لكن عايني الموضع الّذي ينام فيه، فمتى نام، أدخلي وأكشفي جهة رجليه واضطجعي. وهو يخبرك بما يجب أن تعملي”. فقالت لها راعوث: “كلّ ما قلت لي أفعله”》(را. ٣: ٤-٥)
قلق الرجل في نصف الليل ووجد امرأة مضطجعة عند رجليه، فقال: “من أنت؟” فأجابت:《 “أنا راعوث أمَتُك، فأبسط طرف ثوبك عليَّ لأنّك نسيبي ووليّ أمري”. فقال لها: “باركك الرّب يا ابنتي. ولاؤك هذا الّذي تظهرينه الآن أعظم من ولائك الأول لنعمة حماتك، لأنّك لم تطلبي زوجًا من الشباب، فقراء كانوا أم أغنياء. والآن لا تخافي يا ابنتي، ومهما تريدينه أعمله لك، لأنّ جميع أهل مدينتي يعرفون أنّك امرأة فاضلة”》(را. ٣: ١٠- ١١). غادرت راعوث الخيمة عند هجعة الليل الأخيرة وكان قد أعطاها بوعز ستّة أكيال شعير
ذهب بوعز إلى الوالي واستدعى عشرة رجال ليشهدوا على شراء أملاك نعمة، فقد كان حق الشراء للوالي، ثم يعود الحق للآخرين إذا رفض، حسب العرف الذي كان متّبعًا. فقال له بوعز: “يوم تشتري الحقل من يد نعمة تشتري أيضًا راعوث الموآبيّة، امرأة الميْت، لتعيد اسم الميْت إلى ميراثه” (را، ٤: ٥). فتنازل الوالي عن حق الشراء لبوعز، وخلع حذاءه وأعطاه إياه حسب التقليد، فأخذ بوعز الحذاء علامةً، واشترى من يد نعمة جميع ما لأليمالك ولابنيْه كيلون ومحلون، واتّخذ راعوث الموآبيّة الغريبة عن بني قومه زوجةً له. فولدت له ابنًا《 وسمّته الجارات عوبيدَ وقلن: “ولد لنعمة ابنٌ ودعوناه عوبيدَ”》(را. ٤: ١٧)
حكمة الرّب تجلّت في سِفْرِ راعوث، عند ولادة ابنها عوبيدَ الّذي أصبح فيما بعد جدّ الملك داوود، فقد ولد يسّى الّذي هو والد النبيّ داوود الملك. وقد حفظت راعوث الغريبة مكانًا في سلسلة نسب يسوع بسبب وفائها حسب ما جاء في إنجيل متّى (١: ٥)
برزت عظمة لبنان وتمييز الخالق له، حين جعله منذ بدأ الكون، جزءًا من قارّة غوندوانا مركز الكوكب الأزرق، قبل زحف القارّات وبعده. تلك البقعة الخلّابة التي احتوت وحدها على أشجار الكوري الأسطوريّة العملاقة، والتي ولّت بما احتوته من منشورٍ حضريّ كثيف، استبدلها الرّب بنوع نبيل من عاريات البذور، الذي هو أرز لبنان الأشهر. فسجل أحافير الأرز يمتّد إلى فترة ازدهار صنوبر كوري المنقرض، وذلك حسب ما ورد في كتاب “العنبر اللبناني” للعالمين رئيف ملكي وجورج بوينز
برزت عظمة الكورة الخضراء، حين جعلها الرّب على سفوح جبال الأرز، وجعل زيتها مقدّسَا، كحبر أدبائها وشعرائها. فاتّسع حقل “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافي” ليشمل زيتونًا يفوح منه وهج الفكر وحبّ لبنان، كما أبسط بوعز جدّ المسيح ثوبه وشمل راعوث. فها هنا زيتونة تتغنّى بتاريخ وحاضر مديتنها الميناء، وأخرى تُنشد “أنا… بيروت” وتلك تسطّر أفكار الكتّاب، مع أتراب لهم ينشرون الفكر عبر هذا المنتدى المنذور على أعتاب الثقافة. فطوبى من كان له كتاب من ضمن منشوراته، فقد تعمّد بالحبر المقدّس مع كلّ من قرأ وسيقرأ من نتاجه فكر أبناء وطن الأرز
ربي إجعل هذه القراءة التأمليّة ابتهالًا على مذبح الفكر، عن نفس أهلِ المؤتمنة على هذا المنتدى الراقي
يوسف طراد
١٩ نوفمبر ٢٠٢١