بقلم الأديبة اخلاص فرنسيس
منارة الموت، العنوان والإهداء، عتبة النصّ، التناقض ما بين الموت والضوء، من رأى في الموت ضوءاً هو الشخص الذي يهدي أعماله إلى كوكبة كانت لهم اليد الطولى في تحويل هذا الممرّ الأسود الطويل المظلم إلى ممرّ من ضوء، بإشعال أرواحهم في سبيل الآخرين، السعادة التي استشفتها الكاتبة والدعم بكلّ أشكاله، وإلى آدم الذي هو بداية الخلق لا بدّ أن يحضر من الإهداء إلى النهاية، آدم الأول جُبل من طين، ونفخ فيه الله الحياة، وآدم منارة الموت جُبل من الفقر والقهر والذلّ، والأمنيات الهاربة.
تجربة يمكن لأيّ إنسان أن يمرّ بها مرور الكرام، ولكن وحدها الروح الشفيفة التي تعلّقت بها هذه الشوائب، ليست حوادث عابرة، بل مستنقع من الوحل نضع الطفولة به، مستنقع من الوعود التي لا نحقّقها لهم، منهم مَن يتحول إلى الخيال تعويضاً عن فشل الواقع، ومنهم مَن ينغمس بالخوف والاكتئاب، ويعلق بطينهم.
التنمّر كارثة العصر والطفولة، عادة ما تكتب المرأة باسم امرأة، لكن هناء كتبت قصة ذلك الصبي بصوت المذكّر، تخفي تحت طيات الكلمات احتراق روح، وانكسار وجه مهزوم. مَن ينتشل هذا الطفل من جوف بئر الخوف والقهر؟ الأب المهزوم، العاجز عن الدفاع عن نفسه، الأمّ التي لم تكن أوفر حظّاً من الولد والأب، بل طالتها السخرية، والتي سببها الفقر.
الرواية صورة تلو الاخرى وحديث داخلي لآدم، يحاول أن يمزّق تلك الذكريات المتراكمة التي شوّهت طفولته، لا يريد أن يحملها معه إلى المستقبل، هذه الخصوصيات الانحناءات والإهانات الواحدة تلو الاخرى لا بدّ أن تمزّق، ولكن هل ننسى، وتُمسح من ذاكرتنا الصور، وإن مزقنا الورق؟ عوالق بين ماضٍ لأسرة شقّت طريقها في فقر مدقع، وطفل معلّق بين الأماني والأحلام، بأن يقتني “تلفون خلوي”، بعد انتقاله إلى جني بعض المال من خلال عمله في المصنع، ولكن جنى الخيبة، مسيرة وركض، لهاث، ولون بلون الأرض يطارده، هل يستطيع أن يسلخ جلده كي يتخلّص من هذا العبء؟ ومن الوقت الخالي إلّا من رفاهية سّد رمق الجوع، السرد الداخلي، والفردي المونولوج بلغة آدم البريئة، طغت على الرواية بالإضافة إلى حوارات بين شخصياتها، سرد شفيف، تروي قصة الاختلاف ببلاد العمّ سام، وكيفية التعاطي مع الفقراء ذوي البشرة السمراء، في بعض المناطق الأميركية، والصعوبات التي يواجهونها، إضافة إلى النظرة المتعالية من البعض.
لقد عالجت الروائية اختلاف الأجناس العرقية في المجتمع الأميركي، وبالتحديد العنصرية التي تمارس على ذوي البشرة السمراء، الطبقة الكادحة، وبالرغم من الفقر المدقع لم تتوان عن إظهار الجانب الآخر من المجتمع، فالبيض ليس كلّهم عنصريين، وكذلك السمر ليس كلّهم بالضرورة فقراء. وعالجت بكلّ موضوعية وبكلمات بسيطة روح الإنسان وانكساره وفرحه، كلّ تلك المشاعر التي يمكن أن يهديها إنسان لإنسان آخر بمجرّد عمل بسيط، يمكن لابتسامة أن تخرجنا من دوامة شقاء، ويمكن لكلمة أن تمرّغ كبرياء الإنسان، وتغرقه في مستنقع من الألم. الصدق بات مفقوداً، وإن لم تكن ذئباً تنهشك الذئاب، معاناة الفرد في المجتمعات المادية التي لا ترى الإنسان سوى ترس في آلة، وتحكم عليه من الظواهر دون البواطن، إنّها آفة العصر كما يبدو، في هذا المجمتع الموبوء تخلق قصة حبّ، وكأنّ الكاتبة من خلالها تريد أن ترتق وجع القارئ، وتخبر العالم أجمع أنّ الحبّ وحده يهدم الأسوار بين البشر، وبالحبّ نستطيع أن نخترق كلّ الصعوبات، ولكن هل استطاع هذا الحبّ أن يكسر جدار لون البشرة وحاجز الفقر؟ الرواية تصلح لكلّ مجتمع فيه يتسيد الظلم والقهر، لكلّ مجتمع سرق حكامه الحليب والحلم من عيون وأفواه الأطفال، لكلّ مجتمع ينأى فيه الحاكم عن المواطن، وبدلاً من أن يكون الأب والحاضن يصبح الجلّاد.
الرواية فيها كثير من الخيبات، وكثير من الوجع، لم يكن هناك تحديد للمكان والزمان في الرواية، بل كلّ أسماء المدن رمزية، لعلّ الكاتبة سواء قصدت أم لم تقصد، من ذلك، أن تجعل القارئ يختار أسماء المدن والمناطق، أو تستدعي الأحداث والذكريات التي اختزنها لاوعيها، وأيّدتها كلمات وحروف هناء عبيد الشفافة، الرقيقة كما نسمة الصباح، أسلوب رقيق لوصف وجع متأصّل حتى النخاع، يقرص القلب من الداخل، ويقضم الروح.