مستوحداً
والكلُّ من حولــي
أمشي على خطوٍ لمعلــــولِ
بعضي أنا الإنسانُ
يسكنُني
كلّي أنا في كفّ مجهــولِ
…
البيت الأول والأخير من قصيدة (الغول) للشاعر النحيف والوريف (مردوك الشامي).
البيت الأول براعة الاستهلال ، والأخير مسك الختام . وبين البيتين تفاصيلهما المكثّفة بلغة شعرية عالية المعنى والمبنى، أو قل الجوهر والمظهر.
البيتان يضمران فلسفة الشاعر ورؤيته الشبيهة بما عبر عنه المعري وأبي ماضي وما بينهما من شعراء صبوا أرواحهم في بوتقة القصيدة .
في البيت الأول هو وحيد أو يشعر بالوحدة في عالم لا يمتّ إليه، بل يمتّ إلى عالمه الجواني المكتظّ بالقلق والحيرة وما يشبه الجنون. وهو يمشي على الرغم من عدم قدرته على المشي، أو عدم رغبته لأنّه يدرك أنّ نهاية هذا المشي رمال مخيبة للآمال أو عجاج أين منه عجاجات دير الزور ، كماأنّه لا يستعين بعكاز وإلّا قال :
أمشي على عكّازِ معلولِ
فهو يعتمد على إرادته التي لم تنفد بعد، أو قل على طاقته التي تعضّها الأيام المسعورة عضًّا.
في البيت الأخير ما زال يشعر أنّه محافظًا على الإنسان في داخله في زمن يجعل الآخرين وحوشًا ضارية، أو قل على طريقة سارتر: الآخرون هم الجحيم.
بلاغيا استخدم المفارقة أو قل التضاد والطباق بين ما كان ويكون وسيكون.
مستوحد والكل تضاد
أمشي ومعلول تضاد
وهذا التضاد يعبر عن حالة التمزّق التي يكابدها المردوك في رحلته الشعرية والحياتية .
إنسان هرم ومريض ورقيق الإحساس يكره الوقوف لذا يمشي دون أن يتكئ على أحد أو عكاز ، لأنّه طوال عمره عصامي .
في البيت الأخير المفارقة بين :بعضي وكلي.
بعضه فقط يدري بما فيه وفي الحياة حوله، لكنّه ريشة في مهبّ المجهول، بل في كفّه القاسية التي لا ينجو منها أحد.
بيتان ألقيا القبض علي ،خطفاني مني دون طلب فدية سوى القول إنهما تعبير عني وعن كل إنسان لسان حاله كما قال المتنبي:
على قلق كأن الريح تحتي
ولا بد لي من القول إن الروي المكسور في القافية دليل على انكسارات شاعرنا مردوك في محطاته الكثيرة ،تلك التي لم توصله إلا إلى هذا الألم الذي قرأناه في القصيدة ولا سيما البيت الأول والأخير.
النقمة التي تقع على رأس الشاعر تكون نعمة على الشعر عامة كما قيل عن روميات أبي فراس فنقمة الأسر والسجن وهبتنا إياها هي نعمة للشعر إلى أبد الآبدين.
مردوكُ شعرٌ فارعُ الطولِ يقتاتُ من غُلٍّ ومن غولِ