
شاعر وكاتب سوري
صُودِفَ أنْ كنت في المكتبة الوطنية بباريس أبحث عن مخطوطٍ ما، فقيل لي إنَّ ثمَّة عرض أزياء في المكتبة إن أردت حضوره! كان غريبًا عليّ بعض الشيء، عرض أزياء في الـ”Bibliothèque nationale de France”.
كان العرض لمصممة خرّيجة اسمها سيسي لوبي، استوحت الشراكة الفنية بين الفنانة الأوكرانية سونيا ديلوناي والشاعر الروماني الشهير تريستان تزارا، بل خطت على مسارهما، مع تطوير الأدوات، حيث دمجت العناصر فأنتجت فساتين من ورق وحبر وقصائد ورسوم وقماش من مناديل البكاء والشعراء التي رميت تحت النوافذ.

في العصر الحديث، قد تكون تلك العلاقة بين ديلوناي وتزارا هي أول اشتباك جمالي واضح ومفسَّر منهجيًا بين الأزياء والشعر، والحالة الأكثر تمثُّلًا في توظيف العلوم البينية والقريبة في خدمة الشعر، أو في خدمة بعضها بعضًا.
تعرفت ديلوناي إلى تزارا في مركز الطليعة الباريسية بين الحربين العالميتين وأصبحا أصدقاء يجمع بينهما الطموح الكبير في الابتعاد عن جيلهما فنيًا وإنتاج أشكال فنية تقدمية خارج حدود اللغة، وقد قدَّما المسرح والأزياء والتشكيل والشعر حتى باستعارات من الفنون القريبة، وذلك في وقت يضج بالثورات الفكرية والأسماء المهيبة.
تزارا المرعب بلُغَتِه العريضة والموسوعية، والمصنف كواحد من اللغويين العظماء في الشعر الأوروبي الحديث، وبإتقانه العديد من اللغات وبحثه وولعه الدائم في اجتراح لغة وتراكيب نحوية جديدة، ما جعل شعره يخرج عن المنطق واللغة برُمَّتِها، إلى جانب دوره كأحد المحرضين والملهمين للحركة الدادائية، بشراكة مع سونيا ديلوناي الرسامة والمعمارية، الشرسة والنسوية وصاحبة الأفكار الجريئة، والشارحة اللغوية البليغة في تركيب أعمالها والتي وسعت مفرداتها الملونة لتشمل الصور المتحركة والمسرح والعمارة، وبصورة خاصة تصميم الأزياء والمنسوجات والأزياء حيث تعاونت مع النسَّاجين والطابعين على ابتكار أشكال جديدة من التصنيع، ما جعل هذه العلاقة هي الأوضح بين مصمِّم أزياء وشاعر، فشكَّلا معًا عروضًا بصرية وشعرية رائعة.
سونيا الرائدة والمجنونة

سونيا ديلوناي (14 نوفمبر 1885 – 5 ديسمبر 1979) فنانة تنسب لفرنسا، ولدت في الإمبراطورية الروسية، أوكرانيا الآن، تعلَّمت الفن في روسيا وألمانيا، قبل أن تنتقل إلى فرنسا وتُوَسِّع ممارستها لتشمل تصميم المنسوجات والأزياء والديكور. عندما وصلت إلى باريس التحقت بأكاديمية “لا باليت” في مونبارناس. لكنها لم تُكْمِل الدراسة بسبب عدم رضاها عن أسلوب التدريس، الذي وصفته بأنه انتقادي للغاية، أمضت وقتها في معارض المدينة وتأثرت بفن ما بعد الانطباعية لفان جوخ وغوغان وهنري روسو ومجموعة الوحوش بما في ذلك ماتيس وديرين. وشاركت في تأسيس حركة الفن “الأورفية” المعروفة باستخدامها للألوان القوية والأشكال الهندسية، مع زوجها روبرت ديلوناي الذي تقول عنه: “وجدت في روبرت ديلوناي شاعرًا. شاعرًا لا يكتب بالكلمات بل بالألوان”. كما كانت أول فنانة حية تقيم معرضًا استعاديًا في متحف اللوفر عام 1964.
طوَّرَت سونيا تركيبات جديدة من الأقمشة وترجمت اللوحات المسطحة غير الموضوعية إلى أزياء ثلاثية الأبعاد تحركها الموضوعات. وقد حقَّقَت فساتينها وقبعاتها وأحذيتها مبيعات هائلة خاصة من زوجات أساتذة مدرسة “الباوهاوس” ما رفع من قيمة أعمالها ووضعها على خارطة الأزياء إنما الأزياء الشعرية.


صاغ صديق ديلوناي، الشاعر والناقد الفني الشهير “غيوم أبولينير”، مصطلح الأورفية لوصف نسخة ديلوناي من التكعيبية في عام 1913. وعبر صديقها أبولينير، التقت سونيا بالشاعر بليز سيندرارز الذي قالت عنه: “أعمال سيندرارز صدمتني ودفعتني إلى الأمام”. رسمت قصيدة سيندرارز الشهيرة La prose du Transsibérien et de la Petite Jehanne de France التي تتمحور حول رحلة على السكك الحديدية عبر سيبيريا، وجعلت النص في كتاب مطويّ على شكل أكورديون بطول مترين. وقد أحدث هذا العمل ضجة في باريس وتم بيعه بالكامل تقريبًا وأصبح الناس يقدمون طلبات اشتراك لنسخة منه، ضجَّ نقاد باريس حتى أن الرسام “بول كلي” أُعْجِب أيَّما إعجاب باستخدام سونيا للمربَّعات في غلاف الكتاب لتصبح سمة دائمة في أعماله.
وفي عام 1923 ابتكرت سونيا خمسين تصميمًا للأقمشة باستخدام الأشكال الهندسية والألوان الجريئة، بتكليف من أحد المصنعين في ليون؛ بعد فترة وجيزة، بدأت عملها الخاص وأصبحت simultané علامتها التجارية المسجلة، ولعل اسم علامتها (التزامن) يشرح مشروعها بإيجاز، بعد ذلك افتتحت “بوتيك” باسم العلامة أصبح بغية كبار المثقفين وزوجاتهم “لا بوتيك سيمولتانيه” بالشراكة مع جاك هايم، وكان من بين عملائها نانسي كونارد، وغلوريا سوانسون، ولوسيان بوجارت، وجابرييل دورزيات.
تزارا.. شراكة الرؤية والمسار

في العام نفسه، 1923، كانت باريس تستعد لعرض مسرحية الشاعر المرعب تريستان تزارا “القلب الغازي” Le Cœur à Gaz، وقد صممت سونيا السينوغرافيا والأزياء للممثلين. تلك المسرحية كانت بداية صداقة وتعاون مشترك في إزاحة الشعر إلى خارج اللغة.
بدأ تزارا بتأليف قصائد قصيرة تظهر كتركيبات حُرَّة على فساتين وأطقم تصممها وتلونها سونيا، وأحدثا صدمة وضجة في الأوساط الأدبية والفنية معًا، بحيث كتبت صحيفة Le Figaro: “إنها أزياء تعبد مرتديها، ذلك لأنهم المحتوى النصيّ واللونيّ والمعنى كاملًا، من سيلبس هذا؟ هل هنالك سوى مرعبي الثقافة؟”.
القلب الغازي أو القلب الذي يعمل بالغاز، مسرحية كتبها تزارا بالفرنسية على شكل سلسلة من الأحداث غير المترابطة ومحاكاة ساخرة للدراما الكلاسيكية. إنها أداء موسيقي وشعري فيه باليه ونصوص وتشكيل، وهي واحدة من أكثر المسرحيات شهرة المستوحاة من الاتجاه المناهض للمؤسسة المعروف باسم الدادائية. تم عرضها لأول مرة في باريس، كجزء من “صالون دادا” عام 1921 في جاليري مونتين، ثم عُرِضَت للمرة الثانية، وكانت مرتبطة ببيان فني تزامَن مع انقسام كبير في الحركة الطليعية، والذي دفع منافسي تزارا في عام 1924 إلى تأسيس السريالية. وفي معارضة لمبادئه للجناح المنشق من دادا، الذي يمثله أندريه بريتون وفرانسيس بيكابيا، حشد تزارا حوله مجموعة من المثقفين الحداثيين، الذين أيَّدوا بيانه الفني. بلغ الصراع بين تزارا وبريتون ذروته في أعمال شغب، والتي وقعت في أثناء العرض الأول للمسرحية.

ثوب من العرض المسرحي – تصميم سونيا ديلوناي
المؤرخ الأدبي الأمريكي ديفيد جرافر، وصف النص بأنه أعظم خدعة مكونة من ثلاثة فصول في القرن، حيث يسحق عناصر المسرح التقليدي التي يستخدمها بدقة شديدة لدرجة أن القليل من الإيماءات أو الملاحظات تتماسك في أي ترتيب يمكن التعرُّف عليه. هذه المظاهر من الدادا في أقصى درجاتها تقلل من المشهد المسرحي إلى نوع من الصوت الأبيض.
إنها مسرحية ممثِّلوها من أعضاء الجسم، عين وفم وأذن ويد، وتقيم حوارًا فوضويا ولكنه مليء بالشعر. تقول العين للفم: “افتح فمك من أجل حلوى العين”، يقول الفم:
“لا يعرفني الجميع
أنا وحدي هنا في خزانة ملابسي والمرآة فارغة عندما أنظر إلى نفسي..
الفراغ يشرب الفراغ وُلد الهواء بعيون زرقاء، ولهذا السبب يبتلع الأسبرين بلا نهاية”.
قدم تريستان تزارا نفسه نظرة ثاقبة للنية الساخرة والتخريبية، وصرَّح بعد العرض: “أتوسَّل إلى النقاد والأدباء أن يعاملوا هذه المسرحية كما لو كانوا يعاملون تحفةً فنيةً مثل ماكبث، ولكن أن يعاملوا المؤلف غير العبقري، دون أي احترام”.
شاكُل الفنون، خروج الشعر من الأوراق
مع ظهور الدادائية، كان العالم يضج بتحطيم الثوابت، بدأ التعاون بين الشاعر الكبير أندريه بريتون وتزارا في أواخر عشرينيات القرن العشرين، ثم تحول إلى صراع بعد عام 1921. فقد ورد أن بريتون اعترض على أسلوب تزارا في فن الأداء ورحلة دادا إلى سان جوليان لو بوفر وغيرها من الآراء والمواقف.
وقع أول صدام بينهما في مارس 1922، عندما دعا بريتون إلى عقد مؤتمر لتجديد الروح في الحداثة والدفاع عنها، وحشد شخصيات وازنة مرتبطة بالحركات الحداثية، حينها حضر تزارا المؤتمر ليسخر منه بينما استخدم بريتون المؤتمر كمنصة لمهاجمة تزارا.
ردًّا على ذلك، أصدر تزارا البيان الفني “القلب الملتحي”، والذي وقَّعَه أيضًا، من بين آخرين، مارسيل دوشامب، جان كوكتو، بول إيلوار، هانز أرب، سيسيل سوفاج، وآخرون.

مثقفو باريس الذين انفصلوا بين سوريالية ودادائية وما بعدها، ويبدو فيها في الصف الخلفي من اليسار: بول إيلوار، جان آب، إيف تانغوي، رينيه كرفيل. وفي الأمام من اليسار: تريستان تزارا، أندريه بروتون، سلفادور دالي، ماكس آرنت، مان راي. باريس 1933. تصوير: آنا ريوكين
كان البيان عبارة عن خليط من الدادائية وما قبلها ومن مناهضي الحركة البليغين، وقد تضمن العرض المسرحي هذا لأول مرة الموسيقا والتشكيل والشعر والمسرح والرقص، جنبًا إلى جنب، بل عرضت السينما داخل العرض والمسرح داخل المسرح، فكانت الموسيقا لجورج أوريك وداريوس ميلهاود وإيغور سترافينسكي، وعرضت أفلام لمان راي وتشارلز شيلر وهانز ريختر، بالإضافة إلى مسرحية أخرى لريبيمون ديسين “انفخ أنفك”، كما كانت هناك قراءات من كتابات هيراند، وزدانيفيتش، وكوكتو وفيليب سوبو، بالإضافة إلى معروضات لأعمال التصميم لسونيا ديلوناي ودوسبرج.
لعله من هنا، من هذا العمل التجريبي، بدأت تتشاكل الأزياء وتُفَسَّر شعريًّا، وللحديث بقية.
