“بين إهمج واللقلوق، في جرد جبيل، قرن جبل اسمه حفرون. إنها أسطورة عتيقة استمرّت دون شك من زمن الفينيقيين في غموض الوجدان الشعبي. إنها تقول:
كان حفرون ونفرون أخوين من أنصاف الآلهة والدتهما امرأة من الأرض. على قمّة ذلك الجبل ولدا ونشآ. ثمّ ماتت الأم البشرية والتحق والدهما الإله بالغيب وراء الغيوم.. حفرون البكر كما يدلّ اسمه بقي في الجبل “يحفر” الأرض ويقلب الصخر ويعارك الطبيعة القاسية لينتزع منها رزقاً لحاجة يومه. ولكنّ الطبيعة غلبت صموده بقسوتها وقحطها. فإذا حفرون يسقط في الجهاد ويموت من بؤس وجوع وبرد مطموراً تحت الثلج على صخرة الجبل الأجرد الحامل اسمه حتى الساعة.
أما نفرون أخوه الثاني فاسمه دليل مصيره. هذا “نفر” لضيق المجال الحيوي، فرحل عن الجبل الصخري وسار في درب المغامرة. فنزل الساحل وأبحر بعيداً في مركب قاده الى التغرّب في متاهات العالم، وضلّ طريق العودة. ثمّ نسي نفرون أخاه حفرون ولم يعد من الغربة ولم يسمع به من بعد أحد.
حفرون قضى على الجبل العاري، ونفرون انطوى في ذاكرة النسيان.
قد تكون هذه الأسطورة الحزينة تعبيراً عن حقيقة اختبار الفينيقيين الذين تنازعتهم دعوتان كلتاهما إلى الخطر: دعوة للثبات في حمى الجبل وأخرى للرحيل في تيه المجهول. ولكنها تعبر أيضاً عن حقيقة اختبار الموارنة الذين استمروا عرضةً لهاتين التجربتين، فإذا هم موزعو الفكر بين إرادة الإقامة ونزعة الاغتراب.
وعلى كلّ حال فالأسطورة هذه هي أصدق عن تاريخ الموارنة منذ كانوا. ففي نفس كل ماروني يعيش حفرون اللاحق بجبله، المنكفىء على ذاته، المنقبض في عزلته، الذي لا يبيع فقره بالدنيا، فنهده لحده، وكلّ تاريخه جهاد مع الطبيعة. وفي النهاية مصيره الإخفاق والموت في فاجعة.
ولكن في نفس كلّ منهم يعيش أيضاً نفرون المهاجر الذي يناديه، لا للرحيل في مدى المساحات فحسب، بل في متاهات الفكر والاغتراب في المجاهيل ثمّ الضياع والانحلال بعيداً عن تراثات الأرض الأولى ونكران معطياتها ونسيان قيمها.
فكم من مقيم انغلق حتى اختنق كحفرون، وكم من مغترب انطلق حتى انفلق كنفرون. فهما دعوتان: واحدة لكسر كل طوق وقيد، والاقبال على كلّ جديد وبعث كل بدعة، وكشف كل غريب وهتك كل تخاذل. وأخرى للتزمت في المحافظة على كلّ تقليد والتقوقع في كلّ موروث بالٍ عتيق. حفرون يموت اعتزالاً ونفرون انحلالاً.
أترى هذا هو مصير الماروني في نهاية المطاف؟ أحَكَمَ عليه سلفاً القضاء والقدر أن ينتهي المقيم والمغترب من بنيه كما انتهت الأسطورة الحزينة؟
ما مرّ على الموارنة في زمن إيليج وقبله وبعده، من محنٍ مردّها إلى هاتين النزعتين الراسختين في وجدان هذه الأمة التي تعيش في القلق والفزع، ولكنها لا تستسلم إلى الجبن والجزع. تبحث لها في الخارج عن ضمانات لتفي في الداخل بكل الأمانات. تقبل على الانفتاح حتى الانحلال ثمّ تنكفىء على الانغلاق حتى الاعتزال. كالبزّاق على صخرة تمدّ قرنيها الى البعيد، وما تصاب بصدمة حتى تعود فتتقوقع على ذاتها وتلتصق بالصخرة كأنها منها.
مأساتها هي أولاً في نفسها المشطورة: أن تكذّب الأساطير فيسلم لحفرون المقيم رغيف زاد ولنفرون المغترب أرض ميعاد.
ولــكــن مــا لـهـا وللأساطير.
فالــمـسـيــح الذي تؤمن به هو حقيقة أبهى من كلّ أسطورة وأروع من كلّ خرافة وخيال. هو مكذّب اليأس وصارع الأقدار ومطوّع الحتميات. بالــمــســيـح نعرف أن النهايات بدايات وأن حفرون ينهض دوماّ حيًّا من نعش الثلج، وأن نفرون الذي تخطّفته المتاهات يستردّ حريته من الجحيم الغاصبة، على شرط أن تتحول حكمة الأساطير إلى يقين إيمان بالذي صرع الشرّ بالمحبة وتخطى الموت بفعل الإرادة وحوّل القدر الأعمي من فاعل بنا إلى مفعول به”.