اليومَ ليس كمثله يومٌ آخر؛ وقد سرت أخبارُ القطافِ في الأجواء كما تسري النّارُ في الهشيم… فأقبلَ بعضُ الأقاربِ والجيرانِ يمدّون يدَ العونِ كم هو الحالُ في كلّ المواسمِ. إذ سرعان ما يتنادى أهلُ القرية لإنجازِ أعمالٍ تتطلّبُ جهداً وزمناً طويلين، معبّرين عن روحٍ جماعيّةٍ، يسودُها التّعاونُ والاحترام، وتولّد فيهم مشاعر الألفة والوئام.… الحركةُ في دارنا الواسعةِ غيرُ عاديّةٍ…أمّي تشتعلُ نشاطاً وحيّويةً… تُلقي بنظراتِها على تلك العِلّيّة التي شغلت مساحةً كبيرةً من البيت الترابيّ الواسعِ، وربما تتذكر أيّاماً بلياليها من العملِ الدّؤوب والإشراف على صحّةِ وإطعام ونظافةِ وتعقيمِ الرّفوف. تتذكّرُ علبةَ البذارِ التي تُشبهُ علبةَ الجبنِ المستديرةِ بمثلّثاتِها الثّمانية.كيف فتحتها وهيّأت لها حرارةً مناسبةً، ويا للسّعادة وقد فقست كلّ البذور ودبّتِ الحياةُ فيها!…
——————-
طافت في ذهنها تلك الأيّام الرّبيعيّة المنعشةَ والتي عاشتها مع هذهِ المخلوقاتِ الجميلةِ التي تتغذّى على ورقِ التّوت، و تنتقلُ من طورٍ إلى آخرَ من البذرة، إلى الخضرا، فالنّقشةِ، وأخيراً الحمرا… لكنّ أمّي كما بقيّة النّسوةِ ممّن اعتدن تربيةَ الحريرِ تأخذُ في هذه اللحظات الأخيرةِ نفساً عميقاً، وقد اطمأنّت الى آخرِ دودةٍ أكملت نسجَ تابوتها ونامت بإرادتها كما آلافُ الدّيدانِ في مقصورةٍ من الحريرِ الطّبيعيّ نوماً طوعيّاً عميقاً يُمليه ناموسٌ تأتمرُ بأوامره، في طريقها لتحقيقِ رسالتِها التي بُعثت من أجلها، وأنجزتها في أسابيعَ معدوداتٍ، ثمّ هي الآن رهن إشارة مربّيها…
——————-
الصّغار والكبار يفترشونَ أرضَ الدّيار على بسطٍ قماشيّةٍ مزركشةٍ مُدّت فوقَ مهادٍ من الحصرِ المجدولةِ. يُؤتى بأجفانِ الشّيحِ، وتوضعُ أمام القاطفات …العملُ مريحٌ، منعشٌ، ومسلٍّ.
ابتدأ السّباق كما قطافُ القطنِ… الأصابعُ تنغرزُ في الغصيناتِ النّاعمةِ، وتقطفُ القزّةَ تلو الأخرى. تمتلئُ الحروجُ التي تُفرّغُ تباعاً على أكياسٍ بيضٍ نظيفةٍ، وها قد تشكّلت عرماتٌ من القزّ تكبرُ أو تصغرُ تبعاً لخفّة الأيدي في التقاطِ الشّرانق…
الأحاديثُ لطيفةٌ سريعةٌ، لا تحتاج إلى إعمالِ فكرٍ كي لا نفقدَ الترّكيزَ، ونخسرَ السّباق. الشّرانقُ تتجمّعُ فوقَ بعضِها كأنّها تلالٌ صغيرةٌ، تبعثُ الدفءَ، وتنثرُ الحبَّ، وتعدُ بموسمٍ وافر.
——————-
ألا ما أجملَهُ من كرنفالٍ يتناقلُ الرّيفيّون فرحتَهُ جيلاً بعد جيل، ويتلهّفونَ للُقياهُ عاماً بعد عام؟!… وبعد ساعاتٍ من سباقٍ سريعٍ مُبهجٍ، مازلتُ أحتفظُ بسرِّ جماله حتّى الآن، وقد استقرّت في ذاكرتي تلك الخشخشةُ السّاحرةُ، التي تُسمع عند نزع الشّرانقِ المتراصّةِ جنباً إلى جنب، والمالئةِ لغصينات الشّيح. ذاك الصّوتُ الحنونُ أكادُ استحضره الآن وأنا أخطُّ هذه السّطور، فسرعان ما أنتشي، وأستعيدُ طفولتي، وأنا أشمّ رائحةَ القزِّ، ويمتدُّ أمامي شريطٌ من الذّكرياتِ الحافلةِ بما يبهج النّفس، ويُنعش الرّوحَ، ويفتحُ القلبَ على مصراعيه.
——————-
أكوامُ القزِّ ترتفعُ أمام ناظريك، فينبعثُ الأملُ بنقودٍ تملأُ الجيوبَ، وتعززُّ الشّعورَ بجهدٍ كبيرٍ متواصلٍ، لم يذهب أدراجَ الرّياحِ، وبرغبةٍ عارمةٍ لاستقبالِ موسمٍ آخرَ يرسم خطاه بدقّةٍ بالغةٍ وقد اعتاده أبناءُ تلك المنطقة، وشجّعت له تجارةُ الحريرِ العالميّةِ.
أُعلنَ الفائزُ بين الكبارِ والصّغارِ، وسرت موجةٌ من السّعادةِ في النّفوس. وقد نالَ كلٌّ من الأطفالِ جزاءَ عملِهِ ساعاتٍ متواصلةً في قطفِ الشرّانق “شَرْيةً” من القزِّ.
السّعادةُ تملأُ نفوسنا بفرحٍ غامرٍ… نهبطُ الدّرجَ الحجريّ العالي بسرعةِ الرّيحِ غير هيّابين من التّدحرجِ، نتّجهُ شرقاً ونُلقي نظرةً إلى اليمين على أشجارِ التّوتِ الّتي تعرّت في أرضِ البرزانِ المجاورِ لدارنا. نعلو درجةً عاليةً تُفضي إلى مفترقِ طرقٍ، ثمّ نتسابقُ هبوطاً في طريقٍ تُوصلُنا إلى الحارةِ الشّرقيّةِ في حدّها الغربيِّ لنهجمَ كأنّنا نملكُ مالَ الأرضِ إلى دكّانٍ صغيرٍ، ونقايضُ بهذه الثّروةِ الحريريّةِ أشكالاً لا حصر لها من الكعيباتِ المزوّقة، والتي سرعانَ ما تذوبُ في الفمِ، وأنواعاً أخرى من المربّى بألوانِهِ الجميلةِ، والذي يغمرُ أفواهَنَا الصّغيرةَ بسيلٍ من اللّعابِ، ولا بأسَ من بعضِ القرمشليّة الزّاهية لذيذةِ الطّعم.
——————-
نحن الآنَ في حالةٍ من النّشوةِ تولّدها احاسيسُ الحلاوةِ، والمقايضةِ، والرّغبةِ في التملّك، وفرحةِ الشّراء.
ما أشبهنا بأطفالٍ يمرحونَ ويبتهجون…!كأنّنا لم نُكمل سعادةَ أرواحِنَا في عيدٍ أحييناهُ منذُ عهدٍ قريب، فتغدقُ علينا أمّهاتُنا بِشِريَةِ القزِّ التي تكفّلت أن تزفّ ما تبقّى لنا من حبورٍ في عهدةِ الرّابعِ من نيسان.
لن يطولَ مكوثُ هذهِ الأكياسِ النّظيفةِ التي امتلأت بالشّرانقِ… فهناكَ غيرُ بعيدٍ تجّارٌ يتلهّفونَ شراءَهَا، في القريةِ التي تلي قريتنا جنوباً “دير ماما” الشّهيرةِ بتربيةِ دودةِ القزِّ، وحياكةِ مناديلِ الحرير.
——————-
ما زلت أذكرُ كيف اصطحبتني أمّي ذاتَ مرّةٍ، وكنتُ صغيرةً جدّاً إلى دير ماما لتُريني درساً عمليَّاً في حلِّ الشّرانقِ واستخراجِ خيوطِ الحرير. وقفتُ مندهشةً أمامَ حوضٍ من الماءِ الغالي، وقد أُلقيت فيه الشّرانقُ البيضاءُ لتتحوّلَ بالحرارةِ إلى لونٍ أصفرٍ داكنٍ … وراعني منظرُ الدّيدانِ المنتشرةِ في قعرِ الحوضِ، وقد قدّمت حياتَها قرباناً على مذبحِ التّضحيةِ والإيثارِ ليكتملَ خيطُ الحريرِ، ويبلغَ أقصى مداه…
——————-
أذكرُ كيف بدا الرّجلُ يحرّكُ بعصاه القزَّ المرميَّ في طستِ الماءِ السّاخنِ، وإذا به يلفُّ سيلاً مُتجانساً من خيوطٍ صفراءَ فاقعٍ لونُها، ويُلقيها على دولابٍ خشبيٍّ. يستمرُّ الدّولابُ بالحركةِ، وإذا بخصلِ الحريرِ تتكوّرُ لتصيرَ بطولِ السّريرِ؛ خصلةٌ كثيفةٌ بطولِ مترينِ ليست لها بدايةٌ ولا نهاية…
دولابٌ آخرَ يغزلُ على ماسوراتٍ مغزليّةٍ الخيوطَ لتنجدلَ، وتكتسبَ متانةً، وتصيرَ طيّعةً أمام النّولِ الذي يُحيلها إلى قطعٍ منسوجةٍ لمناديلَ حريريّةٍ من فجّتين.
——————-
شهرةُ دير ماما بحلّ دودِ القزِّ، وصنعِ المناديلِ تُطبقُ الآفاق… الصّبايا يتهافتنَ على شراء المناديل الحريرية الذّهبيّة، ويشترينَ ما يلزمُ من خيوطٍ حريريّةٍ لوصلِ الفجّتين بسنّارةٍ قصيرةٍ ذاتِ رأسٍ معقوفٍ، وتزيينِ حوافَّ المنديلِ بأجملِ النّقوشِ والورودِ والأشكالِ الهندسيّةِ… وقد يتزينَّ بها في الأعيادِ ومناسباتِ الأفراحِ… وربّما تشكلُّ مورداً ماديّاً لبعضهنَّ، ممّا يعززُّ شعوراً بالسّعادةِ والاعتدادِ بالنّفس.
لا أدري من كانت أوّلُ امرأةٍ سوريّةٍ زيّنت رأسَها بمنديلِ الحرير !… ولا أدري لأيّ عصرٍ تنتمي…! لكنّي أحتفظُ بصورةٍ لأجملِ وجهٍ مورّدٍ لامرأةٍ ريفيّةٍ كانت متفرّدةً بحبّها للعملِ والإنتاج، تُحيطُ بمنديلها الحريريّ وجهَهَا الأبيضَ الجميلَ، وقد أعطى اللّون الذّهبيّ للعينينِ الخضراوينِ بريقاً ما زال يشعُّ في خاطري.
ويطيب لي أن أستحضرَ ذاكَ المنديلَ الحريريَّ، فأمسكُهُ بكلتا يديَّ، وأفردُهُ، ثمّ أعودُ وأجمعُهُ وأقرّبه إلى أنفي، لأشمَّ من وريداتِهِ رائحةً مؤنسةً، رقيقةً، ناعسةً كأنّها زهرُ الشّيحِ… ثمّ أروح بلا نهايةٍ أدور وأدور مغمضةَ العينين، وأنا أحملُ طيفَ أمّي…
د. فكتوريا فائز سعود ١٩ نيسان ٢٠١٩