يتضمن كتاب النبي، الذي ترجمه الشاعر هنري زغيب، والذي صدر عن (منشورات التراث اللبناني) في الجامعة اللبنانية الامريكية (LAU)، يتضمن مجموعة من المناصات المتواشجة والمستقلة تبدا من الغلاف الذي يتضمن: اسم جبران منفردا، ثم عنوان الكتاب (النبي)، ثم اسم المترجم هنري زغيب مشفوعة بعبارة “صاغه بالعربية وقدم له” بدل (ترجمه)، ثم صورة هي بورتريه شخصي رسمه جبران خليل جبران لذاته بالقلم الرصاص، ثم غلاف الكتاب في طبعته الأولى باللغة الإنكليزية، مع صفحة وصفحة تبين تصحيحات كتبت اليد وباللون الأحمر بخط ماري هاسكل وهي اخر تصحيحات جرت على مسودة الكتاب قبل دفعه الى الطباعة، ثم كلمة السيد رئيس الجامعة اللبنانية الامريكية د. ميشال معوض، ثم مقدمة المترجم هنري زغيب بعنوان (في أن الترجمة عملٌ ابداعي) المقدمة التي هي برايي نص مستقل يعود بكليته الى المترجم، والمترجم هنا اعتبره الصانع الثاني، يعني تماما مثل ادم ابو البشر الاول ونوح ابو البشر الثاني، هذه الترسيمة ممكن نقلها للأثر المترجم فيعود النص الأول بكليته الى الصانع الاول او الاب الأول، بينما يعود النص المترجم الى عملية تلاقح جيني بين هذين الابوين، وتلاقح اسلوبيهما، أي لغتي الكاتب والمترجم.
لقد اعجبتني كثيرا الالية التي وضعها المترجم والتي تشكلت من ثلاث مراحل هي:
أولا، ترجمة المعنى: وهي نقل (أمين) لـ(مضمون) النص، دون اكتراث لشكله وأسلوبه، ثانيا، مرحلة الدخول إلى (معنى المعنى)، او ما اسميه اسرار المعنى، وجاء وفقا لرؤية عبد القاهر الجرجاني (۱۰۰۹-۱۰۷۸) في كتابه (دلائل الإعجاز) والناقد البريطاني ریتشاردز A.Richards في كتابه الشهير معنى المعنى (۱۹۲۳)، ويعرفه المترجم بأنه “اختراق حجب الكلمات بلوغا لمدلولها الداخلي، وهذه المرحلة تلامس “(فكر) جبران لا نصه”، وفي المرحلة النهائية الأخيرة، وهي مرحلة (تنصيع اللغة والأسلوب) وهي تجري بمعزل عن النص الإنكليزي لإعطاء النص (أسلوبه بالعربية)، حيث يأخذ النص العربي استقلاله الذي يأخذ فيه المترجم حقه باعتباره خالقا اخر او ثانيا للنص النهائي العربي، والمرحلة الاخيرة هي مرحلة الخلق بالحفر للوصول الى تنصيع اللغة حسب ما يسميها هنري زغيب فالنص الذي كان عائدا لجبران في اللغة الانجليزية الأولى، ينتهي الى نص التلاقح الجيني بين لغتي جبران خليل جبران ولغة هنري زغيب..
ان الترجمة براينا فن قانونه العلم، او علم تلبّسه الفن، فترجمة الشعر لا ترضي أحدا، يقول بول ارمسترونج صاحب كتاب صراع القراءات ان كل التأويلات صحيحة وان تناقضت، وان حال الترجمات هو حال التأويلات، وهو مصداق لقول جبران ان كل ترجمات النبي تنطوي على روحي.
لقد ايقنت، وانا اقرا كتاب النبي، بترجمة هنري زغيب، ان كتاب النبي واحدا من البشائر الأهم لكتابة الشعر دون وزن في الثقافة العربية..
ان الاعمال الفنية المنشورة في كتاب النبي هي النص الذي لم يطاله الشاعر هنري زغيب باي تغيير فقد نقله من نسخته الانجليزية الى نسخته العربية، وان الاعمال الفنية التي نشرت في النبي تنسجم مع ستايل جبران خليل جبران في الرسم وهي ستايل قريب من عصر النهضة ومن وليم بليك حسب ما ينقل عن رودان الذي قال ان جبران خليل جبران هو وليم بليك القرن العشرين، فيشترك جبران خليل جبران مع وليم بليك بالستايل وبالموضوعات وكلاهما يشتركان مع مارك شاغال الرسام الروسي المتفرنس بانه يرسم قصص الكتاب المقدس بل ويعرّف الرسم بانه لوحة مطلية بقصص الكتاب المقدس.
يعتبر جبران من الروّاد العرب الأمريكيين في الفن، وقد أدرك نبوغه وعبقريته الفنية هذه أساتذتُه والفنانون المحليون البارزون آنذاك عندما كان في سن الثانية عشرة. لقد أقام جبران معرضه الفني الأول في مدينة بوسطن عام ١٩٠٤، وعرض فيه رسوماً تخطيطية ولوحات مستوحاة من الواقعية. ومن ثم سافر إلى باريس لدراسة الرسم بالزيت في أكاديمية جوليان في (١ تموز عام ١٩٠٨) تحت رعاية ماري هاسكيل. وفي عام ١٩١٠، عرض جبران لوحته المشهورة “الخريف” (١٩١٠) في الجمعية الوطنية للفنون الجميلة، كما عرض العديد من لوحاته في الإتحاد الدولي للفنون الجميلة لاحقاً تلك السنة.
التحق جبران، أثناء وجوده في الخارج، بكلية الفنون وتمرّس في ورشة فنان الرمزية الفرنسي بيير مارسيل-بيرونو، وهو من تلاميذ غوستاف مورو. تبنّى جبران رفض بيرونو للواقعية بأسلوبه الرمزي، وفضلّ التعبير التجريدي المحض وذات الطابع الشخصي. كما تأثرت أعمال جبران الفنية بفنان الحقبة الرومانسية وليام بلايك، ورسام الرمزية ايوجين كاريير، والنحات الفرنسي اوغوست رودان، وكذلك الرسام الفرنسي بوفيس دو شافان، وذكر فيهم “كلٌ لديه ما يقوله، وكلٌ يقوله بأسلوب مختلف”.
كما هي حال مَن سبقوه، فقد نظر جبران إلى كيفية تشكيل الصورة والأسلوب التصويري بعناية كبيرة، وإلى أنّ كليهما من الأدوات الأساسية للتعبير عن العاطفة والشغف. لقد أضاف جبران طابعاً شخصياً إلى أعماله الفنية من خلال استخدام الخطوط والألوان، وكَشَف عن وجود صور فنية للجمال والطبيعة والحب والإحساس والروحانية في الفلسفة الروحية والرومانسية العربية. وقد كتب عن تأثير دراسته في الخارج على قدراته الفنية “هل تعلمون، عندما أتيت إلى باريس لم أكن أعلم أي شي عن تقنية الرسم على الإطلاق. لقد كنت أرسم بشكل عفوي وفطري من غير أن أعرف لماذا أو كيف. كنت أشعر أني في الظلام، والآن أنا أشعر كما لو أني أسير وقت الشفق نحو النور”.
استمر جبران، بعد عودته إلى الولايات المتحدة، بعرض أعماله في نيو انغلاند، والعمل في سلسلته “معبد الفن” الذي احتوى على العديد من الرسوم الشخصية لشخصيات سياسية وإجتماعية مرموقة. لقد نُشرت أعمال جبران الفنية بشكل واسع في الصحافة العربية، كما ضمت كتبه الكثير من رسوماته. وعدّه نظراؤه الريحاني ونعيمة، وهم أيضا من هواة الفن، رساماً بقدر ما كان شاعراً ومُلهَماً. داوم جبران على الرسم حتى وفاته عام ١٩٣١ تاركاً وراءه إرثاً فنياً وأعمالاً تتضمن المئات من اللوحات والرسومات.
اعتقد ان هنري زغيب يحاول بمثابرة انتاج نص حداثي ينتمي لعصرنا، او للغة عصرنا، ولكنه لم يتمكن من الخلاص تماما من تأثيرات لغة جبران وتأثيرات لغة العهد القديم والمزامير خاصة ترجمته التي اشرف عليها ابراهيم اليازجي، فمثلا في صفحة 29 يقول: “سرْتَ روحا بيننا، وظلك انعكس نورا على وجوهنا كثيرا، احببناك لكن بصمت كثير” هذه لغة لا تنتمي الى الحداثة التي قال عنها هنري زغيب؛ انما تنتمي الى لغة العهد القديم ونشيد الانشاد والمزامير..