في ديوان مريمَ البكرِ “نحيبٌ في الجنة”، رأيتُني أمام مُتعةِ الأضداد، حيث لم أحصِد إلَّا الحسن.
كانت الجاهلية، بوأد البنات، حاضرةً، ومشت يدًا بيد مع تلك التي أشبعت القصيدة قُبلًا، وأحمرُ شفاهِها يتأوه… مشتا إلى غدٍ يشبه صاحبة الديوان.
كانت المفرداتُ مقدوداتٍ من فصحى بليغة، موغلاتٍ في إيفاء المعاني حقَّها، ولكن سائراتٍ على اشتقاقاتٍ جديدة، أغنت لغة الضاد، وعلى نوتات تتموسق بها العبارات.
اجتمعت الرموز الدينية كلها، في الديوان. قضم آدم تفاحته، فنادى على يوسف، كان في الجب، وإخوته ما زالوا لا يحبونه. لم يجبه يوسف، بل خاطب صليب المسيح، يسقيه من ماء زمزم، بعدما رواه الخلُّ على تلك الخشبة. التقت الرموز، وكذلك القلوب، فما تكررت الستة والستة، ولا انتقصت صلاحية، ولا فاضت قوة… ولا كان فراغ.
وجاء الخليل بأوزانه التقليدية… فلاقته مريم بموسيقى قلبها، تطلق العنان للعبارات مسكوبة مصوغة بإتقان، مبعدة المسافة بين القوافي، ومنوعة إياها، كأني بها رسمت لنفسها مسارًا في تأليف القصيدة، سيُتَّبع، وتُقَلَّد. ومثلما حضر روح الحلاج صوفيًّا متماهيًا مع الحب، لمحتُ من بعيدٍ عمرَ وجميلًا معًا، ومرَّ بهما نزار وفي يده ياسمينة دمشقية، بينما كان درويش في محطة الانتظار، يتصفَّح الجريدة، ويقرأ الجنون على أرض غزة.
أكتفي بهذه الأضداد، ولن أسمح لنفسي، قدر محبتي لمريم، أنا الذي هتفتُ بها شاعرة، من أول بيتٍ ألقته على مسمعي، ذات مناسبة بدعوة من العزيز مارون أبو شقرا، لن أسمح بأن أغفل هنات هينات مررن أمام ناظري. لم أتصفح الكتاب الورقي بعد. قرأت منه نسخة إلكترونية. قد لا تكون النسخة الأخيرة التي أرسلت إلى المطبعة. فعساي أكون مخطئًا في حكمي.
ثمة أخطاء مطبعية، وأخرى في التشكيل، وثمة متفاعلن حلت محل مستفعلن الثانية في أحد أبيات البحر البسيط… استحسنتُها، وعتبت لا على مريم، إنما على الخليل.
أسعد الله الجنانَ الغنَّاء في وجوهكم
وجدتُني وأنا أصعدُ إلى جنَّة مريم كريِّم، كمن يقفُ في حضرة ديَّانٍ، لا يخشى العقاب. فالطفلة الكبيرة، مهما قست، وما قست، سوطُها قافيةُ حرير، نارُها الحبر متوهِّجًا، مساميرُها الكلمات، إكليلها الياسمين، وصليبها الديوان مشرعة ذراعاه على القصيدة، وصراخها: ربَّاه اغفِر لي أَنَّني أرتكبُ الشعر.
وبعد…
مهدت لكلمتي بهذه المقدمة، لأنني عالجت مضمون الكتاب، شعرًا، بقصيدة تفعيلة نسجت على منوال مريم، وغرفَت من مَعين مُعجمها، وتدثرت بعباءة طفولتها الشعرية الكبيرة.
لَا… لَمْ أَجِدْ فِي الْجَنَّةِ الْغَنَّاءِ تِلْكَ… نَحِيبَا
كَانَتْ هُنَالِكَ مَرْيَمُ
وَالْمُسْتَحِيلُ حَبِيبَا،
حَيْثُ الْقَوَافِي إِنْ لَبِسْنَ غِلَالَةً
مِنْ صُبْحِهَا،
تَتَبَرْعَمُ
حَيْثُ الْوُرُودُ إِذَا افْتَرَشْنَ رَحِيقَهَا
تَتَبَسَّمُ،
حَيْثُ الْمَعَانِي حَانِيَاتٌ فَوْقَهَا،
قُلْهُنَّ حَوْرًا، وَهْيَ تَحْضُنُ بِكْرَهَا،
مِلْءَ الظِّلَالِ، وَحَسْبُهَا
لَا طِفْلَ فِي أَحْضَانِ أُمٍّ، يَا دُنًى،
يَتَيَتَّمُ.
كَانَتْ هُنَالِكَ مَرْيَمُ
تَتَأَلَّمُ…
لَا شَوْكَ، لَا مِسْمَارَ،
لَا حَتَّى دُرُوبَ عَذَابٍ… وَصَلِيبَا
جَاءَتْ جِرَاحَاتٌ إِلَيْهَا تَحْتَمِي
حَمَلَتْ بِصَوْتٍ مُتْعَبِ الْأَنَّاتِ
مَا عَجِزَتْ مآسٍ عَنْهُ،
مَا أَضْحَى عَلَى جَسَدِ الزَّمَانِ نُدُوبَا،
وَاسْتَسْلَمَتْ تِلْكَ الْجِرَاحُ لِدَمْعَةٍ
مِنْ مَرْيَمَ الْكَانَتْ هُنَالِكَ دَمْعَةً،
تَتَعَلَّمُ
أَنَّ الْحَيَاةَ، دُرُوبَهَا وَخِتَامَهَا،
بَرْقٌ بَعِيدٌ فِي الْفَضَا… يَتَلَعْثَمُ.
كَانَتْ هُنَالِكَ مَرْيَمُ
تُلْقِي عَلَى جُبٍّ لِيُوسُفَ
مِنْ قَوَافِيهَا سَلَامًا
تَقْتَفِيهِ بِحُسْنِهِ، مَحْجُوبَا
بِالنُّوتَةِ الْبِكْرِ الْخَفِيضِ قَرَارُهَا
جَعَلَتْ تُمَوْسِقُهُ
لَعَلَّ عَلَى الْجَوَابِ الْمُشْتَهَى تَتَرَنَمُّ.
كَانَتْ هُنَالِكَ تُرْضِعُ الْأَوْرَاقَ
مِنْ ثَدْيِ الْمِدَادِ حَلِيبَا
وَتَعُودُ تُشْبِعُ جَوْعَةَ الْكَلِمَاتِ،
لَوْزًا أَخْضَرًا وَزَبِيبَا
حَتَّى إِذَا حَانَ الْحِصَادُ وَجَدْتُهَا
فِي الْحَقْلِ نُورًا لِلْقَصَائِدِ،
فِي الْمَدَى يَتَعَمَّمُ.
وَهُنَاكَ كَانَتْ تَسْتَوِي
الْكُرْسِيُّ يَعْرِفُهَا أَمِيرَتَهُ،
وَحَوْلَهُمَا الْمَعَانِي كَالْوَصِيفَاتِ اللَّوَاتِي
مَا فَقَدْنَ، بِقَصْرِهَا، عَرْشِ الْجَمَالِ،
أُنُوثَةً وَأَنَاقَةً،
بَلْ جِئْنَ مَجْلِسَهَا عَذَارَى حَالِمَاتٍ
بِالْأَرَاجِيحِ قُلُوبَا
تَتَمَايَلُ الْأَنْسَامُ أَشْوَاقًا بِهِنَّ
وَهُنَّ كَلُعْبَةٍ تَتَمَيْسَمُ…
وَغَفَرْنَ، فِي صَمْتٍ، أَوَانَ الْوَأْدُ وَارَى سِرَّهُ،
لِلْجَاهِلِيِّ ذُنُوبَا
وَرَقَصْنَ آنَ الْحِبْرُ أَرْوَى،
وَالْمَحَابِرُ رَيْحَنَتْ،
وَالْحُبُّ فِي لُغَةِ الْجَمَالِ يُتَرْجِمُ
لَكَأَنَّ مَرْيَمَ فِي الْقَصِيدَةِ، طِفْلَةً،
مَا جَدَّلَتْ غَدَهَا ضَفَائِرَ بَعْدُ،
مَا عَقَدَتْ عَلَى الْجُنُونِ قِرَانَهَا
وَتَرَى بِعَيْنَيْهَا غَدًا يَتَبَلْسَمُ.
وَهُنَاكَ كَانَتْ مَرْيَمُ
دَمْعًا لِبَيْرُوتَ الْمَدِينَةِ تَمْسَحُ
غَابَتْ مَعَالِمُهَا فَبَاتَ الْحُزْنُ مِلْءَ فُؤَادِهَا
وَمَشَتْ إِلَى آلَامِهَا ثَكْلَى
كَأَنِّي كُلُّ جُرْحٍ مَطْرَحُ،
وَوَحِيدَةً رَحَلَتْ إِلَى تَارِيخِهَا تَتَلَمْلَمُ.
فَالدَّاءُ حَرْبٌ، وَحْشَةٌ، غَضَبٌ، دَمَارٌ، غُرْبَةٌ،
قَلَقٌ، خُوَاءٌ، وَحْدَةٌ، هَرَبٌ، فَرَاغٌ، هِجْرَةٌ،
حُزْنٌ، عَرَاءٌ، غُصَّةٌ…
أَمَّا الدَّوَاءُ فَصَوْتُ فَيْرُوزَ اعْتَلَى
قِبَبَ الْقِيَامَةِ يَصْدَحُ،
وَبِهَا الْخَلَاصُ، عَلَى الصَّلِيبِ، يُتَمَّمُ…
لَا، لَمْ تَخُنْهَا مَرْيَمُ
كَانَتْ لَهَا أُغْرُودَةً
مَا أَلْبَسَتْهَا غَيْرَ فُسْتَانِ الْعَرُوسِ، وَطَرْحَةً،
شَكَّتْ بِمِعْصَمِهَا سِوَارًا مِنْ حَنِينْ
وَضَعَتْ بِبِنْصِرِهَا طَهَارَةَ خَاتَمٍ مِنْ يَاسَمِينْ
لَا أُمُّهَا بَيْرُوتُ، لَا حَتَّى أَبُوهَا،
بِنْتُهَا هِيَ مُذْ مِنَ الدِّمَاءِ،
مِنَ الدُّمُوعِ، مِنَ الْعَذَابِ،
وَمِنْ مَآسِي شَعْبِهَا وُلِدَتْ، تُحَبُّ
فَزَوَّجَتْهَا مَرْيَمُ
مِنْ مُسْتَحِيلٍ يَبْسِمُ،
وَالشَّاهِدُ الْمَجْنُونُ بَحَّارٌ قَدِيمٌ
وَجْهُهُ ذِي الصَّخْرَةُ الْمَرْفُوعَةُ الْعَالِي الْجَبِينْ
وَالشَّاهِدُ الْأُنْثَى… السِّنِينْ.
كَانَتْ هُنَالِكَ مَرْيَمُ
لَا تَكْتُبُ الشِّعْرَ الْمُقَفَّى،
لَا تَبُوحُ وَتَزْعُمُ
كَانَتْ هُنَالِكَ مَرْيَمُ
تَتَمَرْيَمُ…