د. محمود عثمان
في حضرة غادة السمروط لست بناقد . فأنا لا أملك عدة النقد ومقاييسه . ولست بقارئ ، على عادة القراء .فقد أفرغت نفسي لأملأها ، ولأقرأ نفسي ، من خلالها ، لا لأقرأ أفكارها فحسب
بين فكرة وذكرى ، مشوار من الوهم ورحلة من الحلم ، قطعتها غادة بروحها لا بجسدها . أبحرت بعيدًا ولم تبرح الشاطئ . وهي تصغي إلى ” قهقهات المد ” الساخرة
من المعرفة إلى العرفان ، صعدت في عربةِ من نور
لم تر الكون نظامًا أخلاقيًا على طريقة كانط ، بل محرابًا لصلاة . ونافذةً لعبور إلى مطلق يتأرجح بين عدم تخافه ، وانتقالٍ ترجوه أو عودة . وهكذا تكون الرحلة منها إليها
في البداية ، كانت غادة شاعرةً من خارج القصيدة ، وفي النهاية أصبحت فيلسوفةً من خارج المنهج والنظام . وهكذا تنطبق عليها مقولة جورج سانتيانا
” الحب يجعل منا شعراء ، والاقتراب من الموت يجعل منا فلاسفة ”
في هذا الكتاب ، وإخوته ، من الكتب التي نشرت أخيرًا ، نكتشف غادة السمروط الأديبة التي كانت تختبئ في زي الناقدة الأكاديمية الرصينة ، ونقرأ الكثير من الشذرات والتأملات الوجدانية الفلسفية . قلت نكتشف بل نعثر على كنز تحت أنقاض الخيبة والخوف والألم والأمل المستحيل
وكم حدست بموتها ، وغيابها . وحضورها الأقوى في الغياب . وشعرت بدبيب الزمن المتسرب من عروقها ، فالتفتت إلى الماضي ، حيث كانت طفلةً مفعمة بالحبور . فحاولت تأبيد تلك اللحظات ، وشعرت بسعادة مؤلمة كما تقول
وحدست برحيلها ، وكأنه ماثل أمامها في جنازة فقالت : ” عزف الخريف ألحانه على الأغصان، عادت الأوراق إلى التراب ، غادر الفلاحون الحقول قبل المغيب، وحده عصفور الليل بقي في أعلى شجرة ، يغني على ضفة الرحيل ”
عبرت وحدها في الضباب وشعرت بالوحدة ، وأعلنت الحقيقة التي نطويها في أعماقنا ، أن ” كل إنسان وحيد” على حد تعبير هيرمان هيسه
قالت بالزمن الدائري ، زمن المتصوفة الكبار ، حيث الحياة مجموعة من الدوائر ، وحيث الله هو الجوهر المطلق في قلب الدائرة . راحت ترقص حول نفسها كالدرويش ، تمامًا كما ترقص الكواكب حول الشمس ، وكما ترقص الشمس حول نفسها
لجأت إلى القلم والنون ، لتسطّر أحزانها وتبدع موتها العائد حياةً ثانية . وإذا كان الدين هو معرفةَ الله في جوهره ، والعلم هو معرفةَ الله في أعماله ، على حد تعبير بييتر تشاداييف ، فإني أضيف بأنّ الأدب هو مجاراة الله في خلقه . وهذا ما حاولته الكاتبة العنيدة حتى الرمق الأخير
وكيف لا نقشعرّ عندما تكتب لنا مثل هذه العبارة البلاغية المدهشة : ” هل يتألم الشعاع حين ينكسر على الثلج ؟ “. في صورة واحدة تختزل الحياة والموت . فالشعاع يرمز إلى الحياة والثلج يرمز إلى الموت . وهكذا بروحٍ متألمة تبرز لنا نظرية انكسار الضوء في صيغة استفهامية موحية حيث تضيق العبارة عن استيعاب الرؤية
” كم مرةٍ رحلتُ لأعود إليّ ” .فاختصرت في كلمتين دورة الزمن : ” وعدتُ إليّ ” . وكأنها تردد على طريقتها قصيدة ” الناي ” لجلال الدين الرومي
” أنصت إلى الناي يحكي حكايته
ومن ألم الفراق يبث شكايته
منذ قُطِعتُ من الغاب ، والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدرًا مزّقه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق
فكل من قُطِع عن أصله
دائمًا يحن إلى زمن وصله …”
ترمز هذه القصيدة إلى روح الصوفي المشتاقة إلى العودة للاتحاد بالذات الإلهية ، كما يحن الناي إلى شجرة الغاب التي قُطِع عنها
آمنت د. غادة بفضل خبرتها العميقة ، وثقافتها الواسعة ، أنّ كل رحلة لا تكتمل إلا بالعودة إلى الذات ، حيث الحقيقة وحيث الكنز ، في لحظة التقاء الزمان والمكان حيث اكتمال الدائرة : ” الآن معًا ”
وهي تشبه رحلة الراعي ” سانتياغو ” في رواية ” الخيميائي ” الذي رأى أنّه سيجد كنزًا في ظل الأهرام بمصر ، وبعد رحلة شاقة ومثيرة ، يكتشف أنّ الكنز مدفون في الأندلس ، في المكان الذي انطلق منه . وما رواية باولو كويلو هذه سوى نسخة موسّعة لحكاية
” الحالمان ” في ألف ليلة وليلة
وإذ رأت د.غادة الراحلة بصمت ، في إحدى خطراتها ، شجرة الجوز التي تودّع العصافير ، فكانت هي الشجرة ، فما نحن يا سيدتي سوى هذه العصافير التي تبشر بفرح اللقاء في الربيع الجديد