سُلط الضوء الأكبر في سيرة عبدالرحمن ابن خلدون على كتابه المهم «المقدّمة»، الذي جعل منه مؤسساً لعلم العمران، أو علم الاجتماع بالمصطلح الحديث، ولكن في سيرة الرجل جوانب كثيرة لم تحظ بذات الاهتمام، فابن خلدون شخصية مثيرة للجدل على أكثر من صعيد. ولعلنا نتذكر تناول سعد الله ونوس الناقد لموقف ابن خلدون من تيمورلنك فترة غزوه للشرق العربي، في مسرحيته «منمنمات تاريخية» التي أثارت بعيد صدورها في تسعينات القرن الماضي جدلاً واسعاً، ووقف أمامها النقاد لأنها ناقشت قضية جوهرية، هي العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة، وبشكل أكثر تحديداً، ناقشت دور المثقف عند الملمات أو المنعطفات المصيرية التي يمرّ بها وطنه أو أمته.
حين لام غلام ابن خلدون سيده على موقفه، حسب المسرحية، ردّ عليه ابن خلدون: «هذه البلاد التي تنوح عليها مهترئة ومغزوّة بلا غزو، هل أتحمل السير في ركاب تيمور؟ نعم ولم لا أريد أن أعرف وأن أسجل، أريد أن أستكمل خبرتي، وأن أزيد علمي إتقاناً واكتمالاً»، كأنه يقول: «وماذا تريدونني أن أفعل، طالما الأمر فوق طاقتي».
ولم يكن سعد الله ونوس وحده من تناول ابن خلدون بالنقد، قبله فعل ذلك طه حسين وإن يكن في جوانب أخرى مختلفة، ونذكر أنه في إطار السجال الذي أثارته مسرحية ونوّس في حينه، كان للمفكر محمود أمين العالم رأي آخر، فهو إذ رأى أن «لا قداسة لمفكر في التاريخ»، لكنه رأى أن البنية (المتخيلة) للمسرحية أساءت لشخصية ودور ابن خلدون حين حوّلته إلى ملهم لنموذج المثقف المحايد التقني، مغفلة أنه كان أكبر الملهمين في المشروع العقلاني للنهضة العربية، ويكفي تذكر أن رافع رفاعة الطهطاوي، بالذات، كان أول من طبع مقدمة ابن خلدون.
يمكن أن نُصنف المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري بأنه خلدوني الهوى، هو الذي خصص أحد مؤلفاته عنه، وفي هذا المؤلف يقف الأنصاري على مفارقة أخرى في سيرة ابن خلدون، فهو رغم بروزه كعالم اجتماع، كان أيضاً فقيهاً، حتى أنه أصبح قاضي القضاة في مصر التي أقام فيها الجزء الأخير من حياته وفيها توفي، ولعل ميله الفقهي كان وراء موقفه المعلن من الفلسفة حيث كتب عن «إبطال الفلسفة وفساد منتحليها»، لكن الأنصاري محق تماماً في قوله إن ابن خلدون، رغم ذلك، وفي ضوء فلسفته الاجتماعية والتاريخية، يعتبر في مقدّمة الروّاد «الذين أنزلوا الفلسفة من السماء إلى الأرض، من أجل فهم العالم، فقد أبطل فلسفة الميتافيزيقيا لتحلّ محلها فلسفة الفيزيقيا المجتمعية التي يمكن لعقل الإنسان أن يتعامل معها».