منير عتيبة
صدر النص المسرحي “مبيفصلش شحن.. اختراع آلة الطباعة” للكاتبة إيمان الشيمي عام 2020 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. قراءة النصوص المسرحية المكتوبة للمشاهدة على خشبة المسرح صعبة بالنسبة للكبار، فما بالك بالأطفال من سن 9-12 سنة الموجه إليهم الكتاب؟ ليست هذه هي المشكلة الوحيدة التي قد تلاحظها، فالعنوان الفرعي يعود بك إلى قصة اختراع يوحنا جوتنبرج لآلة الطباعة، وهو ما يبدو كعودة للحديث عن ماضٍ معروف بشكل كبير، وقد تجاوزته التكنولوجيا الحديثة بمراحل. فلماذا تقدم الكاتبة هذه المسرحية؟ ولماذا تنشرها الهيئة المصرية العامة لكتاب؟ تم عرض مسرحية “مبيفصلش شحن” مرتين قبل طباعتها، المرة الأولى في 7 مارس2018م بمكتبة الإسكندرية، المرة الثانية في 27 أغسطس 2019م بالمكان نفسه. وقد كان لي حظ مشاهدة العرض المسرحي الذي قدمه الأطفال بإبداع مدهش، منح المشاهد متعة كبيرة وأثار لديه العديد من الأسئلة والأفكار. لكن النص المطبوع كان فرصة أكبر للوقوف أمام ما قدمته الكاتبة. لإيمان الشيمي عدد من الأعمال المسرحية والقصصية المقدمة للأطفال منها : الضفيرة والألوان- عيلة دوت كوم- نورهان وسر الهدية- حكاية نور- حكاية ناس- حكايات من الزمن الجاي والزمن اللي فات- فاصل إجباري، وغيرها، فهي كاتبة متخصصة في الكتابة للأطفال والعمل معهم، وعندما تقدم عملًا ما فلابد أن نتأكد أنها تقصد ما تقدمه، فما الذي قصدته بنشر نص مسرحي؟ ولماذا عاد النص لماضٍ تم تجاوزه تكنولوجيًا؟ حرصت الكاتبة في نصها على تحقيق أقصى متعة ممكنة لقارئ النص ومشاهده على السواء، فالحوار خاطف وذكي ومبهج ويحمل مضامين غير مباشرة ولكن غير ملغزة لتتناسب مع المرحلة العمرية الموجه إليها، والنص لا يخلو من أغاني، ومن مواقف درامية، ومواجهات مع الحياة الصعبة بما فيها من فقر، ومن غدر الآخرين، وبما فيها من إيمان وإرادة وعزيمة وحماس لتحقيق الأهداف النبيلة مهما يكن الثمن. كما لا يخلو النص من خيال في الانتقال عبر الزمن عن طريق نحلة، النحلة التي تعاكس وتصادق أبطال العمل، وتحقق انتقالًا آخر في الزمن داخل الانتقال الأول بأن يتحدث أفلاطون وأرسطو وأثينا إلى يجوتنبرج في لحظات يأسه لمنحه الأمل لمواصلة تنفيذ اختراعه (الأمل هو بداية النجاح.. ابدأ من جديد بروح مقاتل. إن تعبت في الخير فإن التعب سيزول والخير يبقى)32. كما قدمت الكاتبة مستويين لغويين في مسرحيتها، فالحوار في معظم العمل يكون باللهجة العامية، أما الحوار بين جوتنبرج وبين أفلاطون وأرسطو وأثينا فيكون بلغة عربية سهلة، فتحقق فكرة الانتقال في الزمان عبر الاستخدام اللغوي، وتحقق فكرة الانسجام في العرض الفني بعدم وجود تفاوت كبير بين مستويات اللغة المستخدمة، وهو ما لابد أن الكاتبة بذلت جهدًا كبيرًا لتحقيقه. كل هذه العناصر تجعل النص صالحًا للقراءة الممتعة مثلما هو مناسب للتنفيذ على خشبة المسرح، وقد ساعدت الرسوم التي قدمتها الفنانة عاليا عبد القادر على منح الكتاب متعة بصرية، وقدمت خطًا سرديًا بصريًا موزايًا للحوار والحركة المسرحية. أما أن يكون اختراع يوحنا جوتنبرج لآلة الطباعة هو موضوع العمل في عصر الإنترنت، فلم يكن هدفه المعلومة التي أصبحت مشاعًا ومعروفة بتفاصيلها، ولكن القيمة الأكبر تمثلت في الوقوف عند أهمية العمل الذي أنجزه جوتنبرج (كنموذج لأعمال أخرى أنجزت في أزمان وأماكن أخرى) ووضع هذا العمل في إطار زمانه، وليس بمقارنته بالتطور المذهل الحاصل الآن، مما يجعل قيمة الحكم الموضوعي تتسرب إلى عقل الطفل القارئ/المشاهد، وكذلك إجراء المقارنة الشاملة غير المبتسرة والتي يمكن أن تصل بنا إلى أن اختراعًا صغيرًا حدث في عصر ما كان أكثر أهمية من اختراعات أكبر منه حدثت في عصر آخر عندما يتم وضع كل منهما في إطار عصره وما سبقه وما ترتب عليه (زياد: قيمة الاختراع بتتقاس بمدى التغيير والتطوير اللي حققه الاختراع في عصره وفي تاريخ البشرية)ص16. لقد غير يوحنا جوتنبرج العالم باختراعه، لكنه لم ينل في حياته أية فائدة من ذلك، وهي قيمة أخرى تسربها المسرحية إلى ذهن المتلقي، فمن يقوم بأعمال عظيمة تساعد الآخرين ليس عليه انتظار المقابل، ومع ذلك فليتيقن أنه سينال أعظم مما يتوقع مقابل الخير الذي قدمه (هيلمان: بس يا خسارة يوحنا مات قبل ما يشوف نجاح اختراعه، ويعرف أن الناس عرفت الحقيقة وأن فوست مقدرش ينسب اختراع آلة الطباعة لنفسه. ماريا: الإنسان اللي يعيش طول عمره يخدم الناس عمره ما يموت)ص38 (زياد: والعالم كله اعترف بفضل اختراع جوتنبرج، لأن دخل العالم عصر جديد من التنوير والمعرفة، وتكريمًا له سميت جامعة مدينة ماينز اللي اتولد فيها جوتنبرج باسمه، وفي مدينة فرانكفورت يقام كل سنة أكبر معرض للكتاب في العالم، من أجل نشر المعرفة لكل الناس)ص40 وهكذا تقدم الكاتبة القيمة مع الكثير من المعلومات التي تبدو وكأنها غير مقصودة لذاتها من خلال الحوار. وبرغم التأكيد على أن الكتاب (مبيفصلش شحن) وبالتالي فهو رفيق دائم لا يفارقنا بعكس أدوات التكنولوجيا الحديثة مثل التابلت الذي يحمل مئات الكتب ولكنه إذا فصل شحن أصبح بلا قيمة، فإن الكاتبة لا تبدو شديدة الانحياز للقديم مقابل الجديد، فلم يكن هذا هدفها، بقدر ما كان هدفها تلقي الجديد والاستمتاع به، والاستفادة منه، مع عدم إنكار أهمية القديم عند وضعه في إطار عصره وما حققه للبشرية وقتها، وهي تفتح المجال لكل القادم في نهاية عملها (زياد: طول ما الإنسان عايش هيفضل يتطور ويغير ويبتكر كل يوم حاجه جديدة)ص40. فالاختراعات متغيرة، ولكن قيمة إفادة البشرية، وقيم التغلب على الصعاب والحلم بإنجاز المستحيل، هي قيم دائمة وثابتة، تسعى المسرحية لترسيخها في ذهن المتلقي