على المستوى العملي، من الصعب كتابة النقد الفني، خاصة عندما يستكشف الفن بعمق ويصل إلى جمهور كبير. في هذه الأيام، كل شخص لديه ما يقوله عن الفن؛ هناك تخمة في الاتصالات مثلما توجد تخمة في المعلومات. يجب أن تتناسب التقييمات الخاصة بفنانين معينين، وغالبًا ما تكون موجهة نحو المعارض التي تعرض هؤلاء الفنانين.
عادةً ما تكون المعالجات الأكثر شمولاً وتفسيرا وتقييما واستكشافا للفن المتعمق، مخصصة للفنانين العصريين وبالتالي المهمين تلقائيًا، ويعني ذلك عمومًا أولئك الذين تباع أعمالهم مقابل قدر كبير من المال. وفي كلتا الحالتين، يميل النقد الفني إلى أن يصبح إعلانًا للفنان، أي دعاية فكرية. إنه ليس النوع الأكثر إثارة من الدعاية، لكن له استخداماته: يميل الطابع الفكري إلى أن يدوم أكثر من الطابع الاجتماعي، وعلى الأقل، يحب الناقد الفكري أن يعتقد ذلك.
يحتاج المرء إلى وجهات نظر للتفكير بالفن، ليتمكن بالتأكيد من تفسيره وتقييمه بفطنة نقدية، وعلى نطاق أوسع، من أجل تثقيف حساسيته، وتمكينه من التناغم معه بشكل مسؤول؛ فانا مثلا أحصل على أفكاري من الفلسفة وتاريخ الفن والتحليل النفسي. لدي دكتوراه في الفلسفة وتاريخ الفن، وأربع سنوات من التدريب في التحليل النفسي. لا يمكن لأحد أن يكون ناقدًا فنيًا مسؤولًا -ناهيك عن الاستجابة بشكل صحيح لعمل فني- دون معرفة تاريخ الأفكار، وتاريخ الفن والثقافة، وبعض الفهم لعلم النفس البشري. أعتقد أنه لا يمكن للمرء أن يفهم بشكل كامل الرغبة في صنع الفن، والجهد المبذول في القيام بذلك، دون فهم الأوهام والمشاعر، والإدراك والافتراضات الثقافية، التي تشكلها وتستجيب لها.
وهكذا فإن الناقد المعاصر في موقف مشكوك فيه. إن وعيه النقدي -المعرفة والحساسية التي يمكن للناقد أن يمارسها في الفن- مقيد بمتطلبات السوق، خاصة إذا كان يرغب في الحصول على صوت من الأشخاص الأقوياء، والميسورين في كثير من الأحيان، في عالم الفن. إن هؤلاء “فاحشي الثراء”، على حد تعبير أحد النقاد الفظين، يساوون بين القيمة الفنية والقيمة الاقتصادية.
في الواقع، إن وجود قيمة اقتصادية كبيرة يعني تلقائيًا أن العمل يتمتع بقيمة فنية عظيمة، لدرجة أنه يخرجه من تاريخ الفن إلى عالم متميز خاص به. عندما حققت لوحة موديلياني لامرأة عارية سعراً في المزاد بلغ 170 مليون دولار، أصبحت اللوحة تلقائياً “عظيمة”، ومتميزة إلى حد أنها تبدو منفصلة عن اللوحات الأخرى التي ينظر إليها بازدراء، فيصير العمل وقتذاك متمتعا بميزة اقتصادية مدمجة عندما يتعلق الأمر بمقارنتها باللوحات الأخرى.
نحن في وضع لا يختلف عن ذلك الذي يتم فيه “تقييم” الأفلام. كل ما نحتاج إلى معرفته عن الفيلم هو الربح الذي حققه عند افتتاحه. إذا كان الربح كبيرا، فهو نجاح حاسم؛ إذا لم يكن الأمر كذلك، فهو فاشل ولا يستحق عناء رؤيته. هل الأعمال الفنية التي لا تباع بالملايين تتخبط؟ من الناحية المالية، هي كذلك.
إن الوعي النقدي على وشك أن يسحقه الوعي الاقتصادي، او من المؤكد أنه يتم تضمينه فيه؛ فالأهم من ذلك، أن القيمة المالية هي التي تحدد قيمة الفن. في الواقع، لا يمكن للنقد الفني أن يتنافس مع «النقد المالي». كتب الصحفي المالي فيليكس سالمون في عدد ديسمبر 2015 من مجلة ذي أتلانتيك: «لولا آندي وارهول، لكان سوق الفن المعاصر الحالي الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات بالكاد موجودًا. في العام الماضي، حطم رقمًا قياسيًا لأعلى مبيعات سنوية لأي فنان… ومع ذلك، في عام 1993، بعد ست سنوات من وفاته، كانت سمعة وارهول كبيرة لدرجة أنه عندما عُرضت ستة عشر من لوحاته للبيع بالمزاد، بيعت اثنتين فقط: فقد تم استهزاء فن البوب من قبل جميع هواة جمع الاعمال الذين يحترمون أنفسهم تقريبًا. إن تعافي وارهول من هذا الركود ليس له سابقة في تاريخ الفن أو التجارة.
لا توجد كلمة واحدة عن الأهمية التاريخية الفنية لفن وارهول، ولا عن أهميته الاجتماعية، ولا شيء عن معناه الثقافي، ناهيك عن تأثيره العاطفي. ولا عن موقفه من الفن، مع الأخذ في الاعتبار ما مر في طريقه ليصبح “فنان أعمال”، ففن كسب المال هو أعلى فن بالنسبة له، وبالتالي فهو أكثر قيمة من أي عمل فني. لقد كان وارهول خارج نطاق النقد ـوسوف يضيع عليهـ لأن النقد له قيم مختلفة عما لديه، ولهذا السبب فهو خارج عن الموضوع، إن لم يكن قد اختفى بعد.
وكما يقول المثل المألوف: “إننا نعرف سعر كل شيء، ولكننا نعرف قيمة لا شيء”. إن القيمة التي يعطيها النقد للفن –نوع من القيمة الزائدة– لا تؤخذ بعين الاعتبار بقدر القيمة التي يعطيها المال للفن. يتذكر المرء الملك ميداس، الذي كان يتمنى أن يحول كل ما يلمسه إلى ذهب. وقد استجابت الآلهة بحكمتها الساخرة لرغبته: فقد مات جوعا، لأن الطعام الذي يلمسه يتحول إلى ذهب، مما يجعله غير صالح للأكل. إذا كان الفن غذاءً روحيًا للفكر وقوتًا عاطفية للحياة، فإن لمسة ميداس لهواة الجمع “فاحشي الثراء” تحوله إلى ذهب بلا روح ولا حياة. إن لمسة ميداس تهزم نفسها، لأنها تقلل من قيمة الفن من خلال المبالغة في تقديره بشكل سخيف.
دونالد كوسبيت:
دونالد كوسبيت، ناقد فني ومؤرخ فني أمريكي، يحظى بتقدير واسع النطاق لأكثر من أربعين عامًا من المساهمات في النقد الفني والأدب، بما في ذلك مراجعات المعارض والكتب والمقالات ومقالات الكتالوج. كاتب ومؤسس مشارك لمجلة النقد الفني، لا يزال كوسبيت أحد أبرز نقاد الفن في عصرنا، حيث يستكشف الموضوعات الفلسفية في تأريخ الفن.