قرأت خديجة خبر رحيل الروائي الفرنسي ذي الأصول التشيكية، ميلان كونديرا، الذي كان من أوائل الروائيين الذين قرأت كتاباتهم بتشجيع من أستاذ اللغة الفرنسية خلال مرحلتها الثانوية، تذكرت فقرة بقيت عالقة في ذهنها من روايته (كائن لا تُحتمل خفته)، لم تنسها منذ قرأتها أيام الجامعة وولدت نقاشا بين زميلاتها في غرفة الحي الجامعي بعد أن قرأتها لهن:
-اسمعن هذه الفقرة (تخيل أنك عشت في عالم ليس فيه مرايا، كنت ستحلم بوجهك، كنت ستتخيله كنوع من الانعكاس الخارجي لما هو داخلك، بعد ذلك، افرض أنهم وضعوا أمامك مرآة وأنت في الأربعين من عمرك، تخيل جزعك. كنت ترى وجها غريبا تماما، وكنت ستفهم بصورة جلية ماترفض الإقرار به: وجهك ليس أنت).
-لماذا يخاف الناس من تقدم السن. تساءلت سعيدة باستغراب وهي تبحث في منجد عن ترجمة كلمة انجليزية إلى العربية تحتاجها في بحث الإجازة شعبة اللسانيات.
-لأنهم ينزعجون من التجاعيد التي نحثها الزمن. عقبت فاطمة وقد استلقت على السرير لتريح ظهرها بعد يوم حافل في كليتها حيث تدرس البيولوجيا.
-لكنها تجاعيد تحضن بين خطوطها مسيرة حياتهم بحلوها ومرها. قالت خديجة وهي تنظر إلى سطور الرواية كأنها تريد أن تكتشف و تستشف معلومات أكثر من الفقرة .
-نعم، مسيرة خطوة خطوة منذ أول صرخة بكاء لهم فرحا بالحياة والتي تليها زغرودة استقبالهم في هذه الدنيا.. قالت سعيدة وهي تنقل ترجمة الكلمة من المنجد.
-كثير من الأشخاص يفزعون عندما تخبرهم مرآتهم بأولى شعيرات بيضاء تغزو رؤوسهم. قالت فاطمة وهي تغطي جسمها لأنها شعرت بالبرد.
– رغم أنه بياض بداية أحلى العمر. قالت سعيدة.
-هو غالبا عمر الأربعين وما بعد الأربعين، عمر النضج والحكمة وفهم الحياة واستيعابها. قالت إلهام وقد وضعت صينية الشاي الذي كان دورها لإعداده.
– وسن التمكن من تذوق الحياة بتروي وهدوء بعيدا عن صخب وتسرع الشباب. قالت سعيدة وقد تركت المنجد فوق سريرها وجلست بجانب صينية الشاي.
قالت إلهام وهي تنظر إلى سعيدة بابتسامة لأنها لا تقوى على مقاومة رائحة الشاي ولو بدون النعناع:
-فإذا لم نتعرف على وجوهنا الأربعينية وما بعد الأربعين في المرآة فهذا لأننا سنكون قد هجرنا أرواحنا وذواتنا طيلة الأربعين سنة وما فوق. قالت فاطمة وهي مستلقية على السرير.
-هذا يعني أننا تهنا عنها إلى أن أصبحت غريبة عنا. علقت خديجة وقد وضعت الرواية جانبا والتحقت بسعيدة وإلهام حول الصينية.
-بل أصبحت مخيفة ومفزعة لنا. قالت إلهام وهي تصب الشاي.
-في هذا الحال يجب أن نمسح مرآة قلوبنا وننفض عنها غبار التيهان. قالت سعيدة وقد أخذت كأس الشاي دون أن تنتظر أن تكمل إلهام ملء كل الكؤوس.
قالت إلهام وهي تنظر إلى سعيدة باستنكار:
-صحيح وننظف الصدأ الذي قد يكون نخر نفوسنا وأرواحنا.. وننظر مرة ثانية في المرآة، فستطل علينا وجوها جميلة تزينها تجاعيد حلوة وشعر فضي ينعكس جمال نوره على قلوبنا.
-فتتفتح بصيرتنا وتتسرب إلى أعماقنا فتغوص في آبار كنوزها. قالت سعيدة دون أن تكترث لنظرات إلهام.
قالت خديجة وهي تنتظر أن تعطيها إلهام كأس الشاي:
-وهكذا تكون الوجوه التي في المرآة هي وجوهنا التي نقر بها ونحبها. فالوجوه تزداد جمالا كلما غاصت قلوب أصحابها في أعماق نفوسها وأرواحها.
سمعن قهقهة فاطمة وقد أزالت عنها الغطاء وجلست قائلة:
-هذا تحليل نقوله ونحن لا زلنا في العشرينيات، يا ترى هل سنقول نفسه لما نكتشف نحن كذلك في مرآتنا تجاعيد الأربعين وبياض شعر الخمسين؟
ضحكت جميعهن، ثم ساد صمت وكل واحدة تتحسس وجهها وتشرب الشاي.
اللوحة للفنان بابلو بيكاسو /1932
