في مشهد درامي يغلب عليه التكرار والانسياق وراء الصيغ الجاهزة، يبرز مسلسل “بالدم” كعملٍ ثوري يعيد تشكيل مفاهيم العائلة والأمومة عبر سرد معقد ورمزية عميقة، لا يكتفي العمل بطرح أسئلة وجودية مثل “من هي الأم الحقيقية؟”، بل يخترق الطبقات المقدسة للمجتمع العربي، ليكشف عن هشاشة الروابط تحت ضغط الأزمات الأخلاقية الطبقية. بذلك، يصير المسلسل مرآة مشروخة تعكس تناقضات مجتمعاتنا، وتدفع المشاهد إلى مراجعة مسلماته حول العائلة والشرف والعدالة.
نسجت الكاتبة نادين جابر حبكة تشبه خريطة جينات بشرية، تتداخل فيها القصص الفرعية (تبديل الأطفال، تجارة الرضع، جرائم الشرف) مع الخط الرئيسي (بحث غالية عن هويتها)، هذا التشابك ليس عبثياً، بل يعكس تعقيد الواقع الاجتماعي حيث تتداخل الأزمات الفردية مع البنى المجتمعية الفاسدة.
يعتمد العمل على الفلاش باك ليس كأداة تبريرية، بل كوسيلة لكشف الطبقات المكبوتة في ذاكرة الشخصيات (مثل حكاية آسيا مع الشبكة الإجرامية)، مما يخلق توترا دراميا بين الماضي المؤلم والحاضر الهش
يظهر المسلسل الأمومة كـ ساحة حرب بين:
الأم البيولوجية التي تجرد من حقها في الأمومة بسبب الفقر والعرف الاجتماعي، والأم بالتبني التي تتحول أمومتها إلى كذبة وجودية.
الأم المضطهدة (عدلة) التي تختزل أمومتها في دمية حيث تتحول الأمومة من مفهوم مقدس إلى سلعة قابلة للتبديل، تعكس استغلال النظام الأبوي لجسد المرأة وقيمتها الاجتماعية.
رحلة غالية ليست بحثا عن أم فحسب، بل هي استجواب لأسس الانتماء والبحث على جواب مقنع السؤال:
• هل الهوية تورث بالدم؟ أم تبنى عبر الروابط العاطفية؟
المسلسل يجيب بأن الهوية في المجتمعات الطبقية تصادر من الفرد لصالح النسق الاجتماعي، حيث تحدد الانتماءات الطبقية والدينية مصير الشخص قبل ولادته.
كما أن الشخصيات ترفض الخضوع للقانون فتلجأ إلى العدالة الذاتية، وهذا يشير إلى فقدان الثقة بمؤسسات الدولة، وتحول العدالة إلى فعل فردي معرض للفشل الأخلاقي.
ويمكن العثور على رمزيات تمثل السلطة أو القانون من خلال الكرسي المتحرك الذي لا يمثل مجرد أداة بل رمز للسلطة المعاقة، التي تدير الفساد من خلف ستار العجز الجسدي.
كما أن دمية عدلة تجسيد للأمومة المسلوبة، حيث تختزل علاقتها بطفلها في شيء صامت، كاستعارة لمصادرة صوت المرأة في المجتمعات الذكورية، وليس هذا وحده على صعيد مصادرة حق البوح للمرأة وانما تذهب في اتجاه تدوين جسد المرأة الذي يحمل وشم العبودية وآثار العنف وربما كانت
علامة الجسد التي تكشف الحقيقة المدفونة، كناية عن أن الجسد الأنثوي يحمل شهادات عنف المجتمع عليه، حتى لو حاولت الذاكرة نسيانها.
أما موضوع التطور التحليلي للدم وللخلية والذي كشف افاق معرفية هائلة على مستوى دراسة السلالات الحياتية ،يعود مجددا عبر صيغة الـ DNA في اكتشاف الحقيقة البيولوجية، ربما ينجح في مهنته العلمية التحليلية لكنه يفشل في قياس عمق الروابط الإنسانية .
ربما كان التحليل السابق يعبر عن المحتوى الهام الذي أراد المسلسل إيصاله لنا عبر دراما تشويقية اعتمدت الاخراج المتميز والأداء المبهر لأغلب شخصيات العمل إضافة إلى البذخ في إظهار الصورة المجتمعية وجرأة الطرح في نقد تابوهات الأمومة والشرف، واستخدام أو توظيف الرمزية لخدمة السرد والحذر من السقوط في التفاهة المصاحبة لإنتاج الدراما ذات الصبغة التركية أو المعربة التي تأتي سمجة سطحية لا تقترب من الاعماق ،وهذا ما حاول مسلسل بـ الدم تحاشيه، رغم وجود نقاط ضعف مميزة في العمل وربما كان الهدف الوصول إلى 30 حلقة لتغطية ايام شهر رمضان وهذا الموضوع كلف المسلسل الاستطالة حيث اتسعت الحبكة والتي أضعفت تركيز المشاهدين حيث هناك انساق درامية تم قطعها دون متابعة، كـ قصة ريمون العاطفية التي لم يعرف المشاهد بقية القصة، وتهميش الدور القانوني في المجتمع ،حيث بدت شخصية المحقق هامشية وغير فعالة قانونياً.
أما على مستوى الاخراج الفني فقد كان الاخراج موفقاً في توظيف الضوء الخافت في الأحياء الفقيرة والنور الساطع في القصور حيث الفروقات الطبقية و فضح مثالية المجتمع ،واستطاعت الموسيقا التصويرية المميزة إغراق المشاهد بروح عذبة قادرة على توليد المشاعر العميقة، وخاصة مع أداء الأم غالية التي أدت دورها الفنانة الجميلة ماغي بو غصن
الشخصية المركزية التي استطاعت أداء الانفصام في افضل مشهد لها من خلال نظراتها الحادة في المحكمة التي تعارضت مع ارتعاش يديها حين تعلم الحقيقة، كما أن الممثلة سينتيا كرم وبدور عدلة ترجمت الوجع والألم عبر نظراتها ومحاولتها السيطرة على مشاعرها في أكثر من مشهد وخاصة فيما يخص علاقتها بالدمية.
وكما وظف المخرج الإضاءة للكشف عن عالمين متناقضين مترابطين فأنه المخرج فليب اسمر استطاع توظيف وتحويل المكان إلى شخصية صامتة وذلك من خلال تركيزه على جدران الأحياء الراقية التي تخفي خلفها جرائم كبيرة بحق المجتمع والحياة.
وفي النهاية وبأختصار
وبعد متابعة لأكثر من 17 ساعة درامية عبر 30 حلقة من المسلسل ،هل يمكننا القبض على المعنى أو الرسالة التي حاول المسلسل إرسالها للمشاهدين مفادها هل قوة العائلة وترابطها يكمن في صلة الدم أم الوجع المشترك والحياة التشاركية ؟
مسلسل “بالدم” لا يقدم إجابات جاهزة، بل يفتح جرحا في جسد المجتمع، ليكشف أن “العيلة” قد تكون احيانا بالدم، لكنها دائمًا بالألم المشترك
فالعمل الدرامي بـ الدم يعلن بأن الأمومة ليست حكرا على الولادة، بل على من يدفع ثمن البقاء في المعركة، في النهاية، يبقى السؤال هل نحن مستعدون لتفكيك قداسة الدم لبناء قداسة الإنسانية؟
