عمر فضل الله
مَكْتَبُ التُّرْجُمَان
بعد صراع نفسي طويل بدأت أعتاد الجلوس في مكتب جدي “دَلْمَار”. فقد كنت أتهيبه ولا أجرؤ على المكث فيه طويلاً. سكان القصر كانوا ينادونني “دَلْمَار الصغير” ثم أطلقوا على المكان “مكتب سِيْسِّي” بعد أن كان اسمه “مكتب دَلْمَار”. واحتراماً لجدي أمرت بتسمية المكان” مكتب الترجمان”. حين دخلت المكتب لأول مرة بعد أن تنيح “دَلْمَار” أحسست كأنني أتعدى على مكتبه، وكنت أراني آخذ شيئاً ليس لي. وحين جلست على منبره الذي كان يكتب منه، كنت أحس بطيفه يحوم حول رأسي. وكنت أتهيب المكان جداً، ولكنني مع مرور الوقت بدأت الاعتياد عليه. كان المكتب يسوده الهدوء فهو يقع في الجزء الشمالي من القصر ويطل على الشرفة الشمالية الجميلة. والمكان بحكم محتوياته محظور لا يدخله أحد أبداً إلا بعض الجواري اللاتي يأتين لتنظيف المكان أو تقديم الخدمة ثم ينصرفن على الفور. مكتب “دَلْمَار” ضخم ومتسع وكأنه إحدى قاعات المكتبات وقد علقت على جدرانه كثير من الهدايا الملكية التي تأتي بها الوفود. وبه خزانات مليئة بالوثائق والأوراق والصحف والمخطوطات الجلدية. وخزائنه تعج بالأسرار الملكية. حين ملكت الجرأة على تفحصها للمرة الأولى بعد وفاة جدي رأيت كثيراً من الخرائط والمخططات، وجداول بها مقاييس ارتفاع واتساع وأعماق النيل وحساب أوقات الفيضان وتقويم الزراعة والحصاد وحساب أيام زراعة كل محصول وأوقات الري وتواريخ الحصاد. وهناك قسم مخصص لجرد مناجم الذهب في الجبال الشرْقَيَّة والجنوبية الغربية وحصر مصاهر الحديد. الكنيسة تملك مناجم كثيرة للذهب في عَلَوَة. وفي إحدى الخزائن وجدت سجلاً لتأريخ الكنيسة والرهبان وزيارات البطارقة، ووجدت قوائم للقساوسة والرهبان والراهبات وخدم الكنيسة. وكان يبدو مما اطلعت عليه أن القصر يراقب حركة الكنيسة بدقة متناهية، ويبدو أن الكنيسة تشكل أكبر خطر داخلي على المملكة، فهي تفرض سياسات كثيرة على الملك وتنفذ سياسات وحكم الرومان في المنطقة. ووجدت سجلاً بالعبيد في القصر وملفاً لكل فرد منهم. ورأيت قماطر بها الكتب والرسائل من الملوك والرؤساء، بعضها مكتوب على الجلود وأخرى منقوشة على القماش أو العظام وحتى الحجارة والخشب. استطعت أن احكم على عظمة الممالك وقوتها أو غناها وفقرها من رؤيتي للرسائل الواردة منها. كانت الرسائل مكتوبة بلغات كثيرة، بعضها أعلمه والكثير منها مجهول بالنسبة لي. وكانت هناك خزانة مليئة بالأختام وبعضها من الذهب الخالص. كانت الملكة تزورني في مكتبي أحياناً أو ترسل بعض الجواري لأذهب إليها في مقرها بالقصر. وكانت تحتاجني لكتابة الرسائل أو قراءتها، واستشارتي فيما يتعلق بالرسائل المصاحبة للهدايا المقدمة للملكات والأميرات في الممالك المجاورة. وكنا نتحدث أثناء هذا عن أمي “تَانِيْشَا” أو جدي المتنيح “دَلْمَار”. كانت الملكة الشابة مثالاً للجمال. وكانت الفتيات يقلدنها في زينتها وملابسها وعطورها وحتى مشيتها. كانت أمي قد أحسنت الاختيار للملك فلا أظن أن في مملكة عَلَوَة من هي أنسب منها للملك الشاب سيدنا “أَصْحَمَةَ” النجاشي. قالت الملكة:مقتطفات من رواية ترجمان الملك: لا أعجب من أين جاءت بكل هذه المعرفة وذلك لكونها من سلالة “أرياط” الشهير، ولكنني أعجب كيف استطاعت أن تفعل هذا وتحتفظ بجأشها وتوازنها كل هذه الفترة في غياب أبيك. إنها امرأة قوية بلا أدنى شك. وأنا أغبطها على شخصيتها. ألا ترى أنها أفضل صديقاتي والمقربات مني رغم فارق السن؟.
***
حين كنت أفحص خزائن الرسائل لفت انتباهي أن هناك نسخة واحدة على الأقل من كل كتاب أو رسالة بعثها الملك النجاشي لأي ملك أو رئيس قبيلة، وعجبت كيف تمكن جدي “دَلْمَار” من كتابة كل هذا العدد من الرسائل وبهذه اللغات المختلفة. ولفت انتباهي رسائل مكتوبة باللغة العربية. ولما كنت من هواة مطالعة العربية وقراءتها فقد سمحت لنفسي بقراء الرسائل الصادرة المكتوبة بها، ولفت انتباهي أيضاً أن هناك نسخة من رسالة حديثة صادرة ومرفق معها أصل رسالة حديثة أيضاً واردة بالعربية وإذا هي من محمد رسول الله إلى أَصْحَمَةَ بن أبجر نجاشي الحبشة.
نازعني الفضول لقراءتها فقد سمعت كثيراً عن هذا الرجل من الزُّبَيْر والعرب القادمين، ولما اطلعت على الرسالة وجدتها لا تشبه رسائل الملوك والرؤساء فلم يكن فيها العبارات الفخمة، وكلمات التباهي والفخر، ولكنها كانت مختصرة ، وكانت تدعو الملك النجاشي إلى عبادة الله الواحد والدخول في دين الإسلام. وكانت عباراتها آسرة ومعانيها قاصدة. طويتُ الرسالة بعد قراءتها وأعدتها في مكانها.
***
القصر كان به كثير من الجواري والعبيد. كنت تجدهم في كل مكان، بدءاً بالملاحق الخارجية التي خصصت للطبخ، ومخازن ومستودعات الطعام والثياب والمؤن، وحظائر الخيل ومساكن العبيد والجواري واستراحات الحراس وانتهاء بقاعات القصر ومخدع الملك والمكاتب الإدارية، وقاعات الطعام والضيافة والاحتفالات، والساحات الأمامية والخلفية. بين الفينة وأختها كنت تلمح الجواري يفتحن الطاقات العلوية ليتجدد الهواء في القصر أو يطلقن البخور الفاخر ذا الرائحة الجميلة النفاذة أو ينظفن الأثاث. كل قسم من الأقسام به عدد من الغلمان والجواري للخدمة والضيافة والترفيه. وكانت هناك أقسام محظورة إلا لفئة معينة من الخدم والجواري. وقد كان العبيد درجات، فالقدامى هم الرؤساء. رئيس العبيد “يوناس” كان صارم القسمات متجهم الوجه يخافه الجميع ويخشونه، وهو بمثابة الآمر الناهي لجميع العبيد في القصر، ولكنك قلما تراه يمشي في أروقة القصر، وإذا رأيته فلابد أن هناك حدثاً كبيراً ، أو أمراً خطيراً يستدعي مجيء “يوناس”. أما “مهارين” رئيسة الجواري فهي دربة ماهرة كثيرة الحركة والتطواف لا تكاد تستقر في مكان وكانت تراقب الجواري بانتظام.
وكنت قد اعتدت وقع أقدام الجواري والعبيد وهم يمرون أمام مكتب الترجمان لدرجة أنني كنت أستطيع أن أميز وقع أقدام الجواري على الأرضية الحجرية، فقد كانت مثل نقر طائر الدوري على نافذة بيتي صباحاً، بينما كان وقع أقدام العبيد مثل صوت عصي التنظيف حين تخرج الجواري لنفض الغبار عن الوسائد. الجواري كن يمشين على أطراف أصابعهن بينما كان العبيد يطرقون الأرضية الحجرية بكعوب أقدامهم. أما “مهارين” فقد كانت تمشي مشية عسكرية وكنت أستطيع أن أميز وقع أقدامها بمجرد أن تضع أول خطوة في بداية الممر الحجري أمام مكتب الترجمان. كانت تصطحب الجارية التي يتم نقلها إلى أي قسم من الأقسام لتقديمها إلى المسئولين ولتتأكد من قيامها بواجبها على الوجه الأكمل. وفي ذلك الصباح الغريب سمعت وقع أقدام “مهارين” في الممر يجاوبه وقع أقدام خافتة تمشي على استحياء فعلمت أن هناك جارية جديدة تم نقلها إلى مكتب الترجمان. ولم أعر الأمر اهتماماً في البداية فقد اعتدت على تغيير الجواري اللاتي كن يأتين للتنظيف والخدمة أو للمساعدة في ترتيب القماطر ورص المصاحف أو تحضير الحبر والأقلام. حين وصلت “مهارين” في ذلك الصباح كنت منشغلاً بمراجعة جدول العمل اليومي ومنكباً عليه فلم أر وجه الجارية الجديدة التي قدمتها رئيسة الجواري، ولكن “مهارين” قبل انصرافها قالت إن سيدتي الملكة هي التي أوصت بنقل هذه الجارية إلى مكتب الترجمان. ولفت ذلك الكلام انتباهي إلا أنني آثرت الاستمرار في المراجعة، فبقيت فيما أنا فيه، لكنني انتبهت لما قالت هذا ثم انصرفت وأغلقت الباب وتركت الجارية وراءها. وحين لم أكن معتاداً على هذا التصرف فقد رفعت رأسي لأستطلع الأمر. واتسعت حدقتا عيني من الدهشة الممزوجة بالصدمة، فقد كانت الجارية تقف أمام مكتبي مباشرة وعيناها إلى الأرض وقد عقدت أصابع يديها وأبقتهما مفتوحتين أمامها متجهة راحتاهما إلى الأعلى في إشارة إلى أنها رهن إشارتي.
كانت هي بلا أدنى شك. بشعرها الأسود الطويل المعقود ضفيرتين تتدليان من فوق كتفيها وتستقران فوق خصرها. هي هي بابتسامتها البريئة ووجها الطفولي وعينيها الواسعتين المتسائلتين. كانت المفاجأة قد عقدت لساني عن الكلام. توقعت كل أحد في مكتبي إلا هي. توقعت أن أرى “سِيْسِّيا” أو”مُونيِتَا” أو”سُونِيتَا” ، توقعت كل أحد إلا هي. ربما لأنني في ضميري المغيب كنت أريد أن أنساها أو أتناساها فألغيتها من مخيلتي ومن واقع حياتي. ألغيت وجودها في حياتي. نحيت طيفها وذكراها وماضيها من عقلي الحاضر ولكنها بقيت رغم ذلك تملأ كل مكان في ضمير الغيب عندي. كانت لحظة واحدة من الظهور الحقيقي المفاجيء كافية أن تهز أعماقي وتقلب كياني، وتعيدني إلى واقعي وتوقظني من سبات المشاعر، وتفك الحصار المفروض لأكثر من عشر سنوات على العاطفة المتمردة المتأججة في دواخلي، واللهيب المستعر الذي لم يكن ليطفئه الزمن أو تخمده الأيام. تركتها تقف أمامي وحاولت الهروب من الواقع الماثل إلى الماضي المختبيء، إلى ذكريات الطفولة البريئة لعلي أجد مخرجاً أو مهرباً من هذا الواقع الماثل.. فجأة وجدت نفسي أركض في طرقات سوبأ، حيث كانت تختبيء مني ونحن نلعب بين شجيرات الصفصاف عند شاطيء النيل. فجأة وجدت نفسي أشدها من شعرها وأمسك بضفائرها السوداء الجميلة وكانت تمسك بيدي القابضة على مؤخرة رأسها وتتألم:
– آخ ، شعري شعري.. أترك شعري .. “سيس” أنت عنيف.
وكنت أكتفي بالابتسام ولا أرد عليها. فجأة وجدت نفسي أخطف عرائسها وأجري وهي تعدو خلفي لتمسك بي وتستعيد تلك العرائس المحشوة بليف شجر “المقل” وأنا أتفحصها قبل أن أتلفها وكأنني كنت أغار من تلك العرائس. ثم فجأة رأيتنا تحت شجرة الأراك، وأعواد السواك في أيدينا، ورائحة أنفاسها والخدر اللذيذ، والقبلة الأولى، والضفيرتان تتقلبان بالتبادل بين كتفها الأيمن والأيسر وهي تجري وتهز رأسها يميناً وشمالاً، وترفع عقبيها بتكلف فيضربان على ردفيها برفق وهي تجري. ابتسامتها البريئة، ووجها الطفولي، وطعم فمها، وتلقائية كلامها الذي يحملك إلى عوالم مسحورة.وتحليقنا في عالم الخيال الجميل في أفق الفضاء، ومع الطيور والحوريات وعالم الجن وقصور الوهم على شواطيء الأحلام وقطف الأزهار البرية من روضات الحدائق النائمة، عند السحر. فجأة عدنا منطلقين كمهرين جامحين في البرية لا يقدر عليهما أحد. فجأة…
كانت طوال هذا الوقت واقفة ونظرها إلى الأرض. ولعلها لاحظت أنني تسمرت كأنني تمثال روماني قديم في ساحة سوبا، فرفعت عينيها المتسائلتين، اللتين كانتا تحاولان الضحك، لكن الحزن العميق كان يصرخ في أعماقهما. كان الغضب المكتوم في دواخلي قد تغلب على الأحلام الوردية في أعماقي، فخرج الكلام من فمي كحشرجة الخروف المذبوح:
– أنت !!
– نعم أنا، وإن كنت لا تريدني فسوف أنصرف وأطلب من السيدة “مهارين” ..
– لا لا . ابقي. أريد أن أتحدث معك.
– عموماً مكتبك مرتب ولا يحتاج إلى مزيد من العمل يا “سيدي”. وإذا ..
– توقفي..
كان العرق قد بدأ يندى على جبيني وأخذت شفتاي تضطربان وأنا أتحدث. سادت لحظة من الصمت، لم ترفع عينيها لتنظر في عيني إطلاقاً. بقيت كما هي، نظرها إلى الأرض ويداها متشابكتان. لاحظت أنها نادتني “ياسيدي”.
– رأيتك ذلك اليوم في قاعة الملك تقفين خلف سيدي النجاشي. حاولت أن أنظر إليك ولكنك تجاهلتني.
– كنت لا أريد أن ألفت الأنظار “يا سيدي”.. كلا كلا. كنت لا أستطيع أن أنظر إليك. تعرف. كلا. كنت.. كنت.
– أين ذهبت؟
– أنت لم تبحث عني!! كنت أعلم أنك سوف تبحث عني ولكنك لم تفعل.
– كيف عرفت أنني لم أبحث عنك؟
– لأنني انتظرت كثيراً قبل أن ألجأ إلى القصر.وأنت لم تأت.
– لماذا توقفت عن الحضور تحت شجرة الأراك؟
– …
– حقيقة أنت ما عدت تأتين. لماذا توقفت؟ لقد بقيت أنتظرك تحتها كل يوم. ولفترة طويلة.
– لماذا تظن أنه تم نقلي إلى القسم عندك هنا؟ هل هي مصادفة؟
– حقيقة لا أعلم فلماذا؟ وهل الملكة هي حقاً من أوصت بنقلك؟
– نعم فالملكة تعلم كل شيء؟ فلماذا لا تسألها عن قصتي؟
– ياللهول تعلم كل شيء عنا؟ عني وعنك؟ من أخبرها؟
– أنا أخبرتها حين لجأت إليها.
– تعالي، “سُنْجَاتَا” انسي أنك تعملين عندي. تعالي اجلسي على هذا المنبر. حدثيني.
– هنا في القصر لا ينادون الجواري بأسمائهن يا “سيدي”.. قل لي يا جارية.
– توقفي عن هذا يا “سُنْجَاتَا”.. واجلسي!
فجأة تحولت مشاعري إلى الاهتمام العميق والرغبة القوية لمعرفة ما عندها من أخبار. راقبتها وهي تتجه في تردد نحو المنبر ثم تصلح فستانها وتجمعه بيديها وتطرحه بعيداً عن مقعدتها وهي تجلس بهدوء حذر وشعرها ينساب ليسابق يديها فوق المنبر قبل أن تزيحه حتى لا تجلس عليه. كانت تنظر إلى الأرض في انكسار. جمعت يديها في تصميم وكانت تنظر إليهما وهي تتحدث:
– أنت تعرف أن أمي هي كل ما كان لدى في الحياة. فقد قتل أبي في المعارك. وكانت أمي قد حزنت عليه كثيراً. ولكنها لم تنس تربيتي والاهتمام بي رغم الفاجعة التي حلت عليها. ولم يكن عندنا مصدر للمال، واضطرت أمي في فترة من الفترات إلى أن تستجدي الطعام من بيت قائد الجيش. ولما علمت زوجة قائد الجيش بحكايتها جعلتها تخدم عندها في البيت، فكانت أمي تخدم في بيت قائد الجيش سحابة النهار ثم تعود ليلاً وهي منهكة القوى ببعض الطعام لنسد به الرمق. وظل الحال على هذا سنة كاملة، ثم لاحظتُ أن أمي كانت تعود وهي باكية، وتفوح منها رائحة الخمر. وثيابها غير مرتبة. وكانت لا تريدني أن أراها على هذا الحال فكانت تجتهد لإخفاء ذلك عني. وكنت أتظاهر بالنوم حين تأتي آخر الليل رغم أن الجوع كان يقتلني ويمنعني النوم. وكنت أعلم في قرارة نفسي أن أمي تتعرض للاعتداء كل ليلة في بيت قائد الجيش أو ربما في مقر الحراس عند البوابة. وعلمت أن ذلك كان يحدث بغير علم قائد الجيش، وعلمت أن الحرس كانوا يتحرشون بها ويهددونها بالاعتداء علىَّ إن لم ترضخ لرغباتهم، فكانت تتناول الخمر حتى تغيب عن الوعي قبل أن يعتدوا عليها. وكانت تفعل كل ذلك في مقابل أن يسمحوا لها بأخذ الطعام إلى البيت لتطعمني وتسد رمقي.
– ياللهول يا سُنْجَاتَا. وكيف عرفت كل هذا؟
– أتذكر “سمبا”؟ صديق الطفولة؟ هو الذي أخبرني بكل هذا فقد كان يعمل في بيت قائد الجيش قبل أن نأتي معاً إلى القصر. ولكن دعني أكمل لك الحكاية.
– عفواً أكملي..
– كنت قد اعتدت أن أترك أمي تنام حتى تستيقظ من تلقاء نفسها، ولم أكن أحب أن أوقظها لأنني كنت أعلم في قرارة نفسي أن وقت النوم هو الوقت الوحيد الذي تنعم فيه بالسلام. وفي صباح أحد الأيام خرجتُ مبكرة ولم أشأ إيقاظ أمي بل لم أتفقدها في غرفتها أصلاً، وكنت أظنها نائمة ولكنها في واقع الأمر لم تكن قد عادت تلك الليلة. وحينما عدت في العشية وجدت “سمبا” جالساً في غرفتي وهو قلق جداً وحينما رآني أخبرني أن الحرس قد غضبوا حين تغيبت أمي عن بيت قائد الجيش ذلك اليوم والليلة التي قبلها وجاءوا يبحثون عنها ولكنهم لم يجدوها وأنه تخلف عنهم ليخبرني. وهرعت نحو غرفة أمي ولكنها كانت كما تركتها منذ يوم وليلة. وكان واضحاً أن أمي لم تبت فيها تلك الليلة ولا الليلة التي قبلها. كنت كقط مذعور وأنا أجري في طرقات سوبأ أبحث عن أمي. كانت هي محور الأمان في حياتي. كانت هي كل أسرتي. كل شيء عندي. كنت أتوسل للناس في الطرقات أن يخبروني إن كانوا قد رأوا أمي، وكان الناس لا يكترثون. ومن يكترث منهم يقول إنه لم يرها. وكان “سمبا” يطوف معي ويسأل. ثم أخذني آخر الأمر إلى سوق العبيد فهو الملجأ الأخير لمن فقد ابناً أو بنتاً أو أماً أو أخاً. وكنت تجد الأخبار هناك. وهناك علمت أن أمي تم اختطافها ليلاً حين كانت عائدة إلى البيت. كان هناك رجل اسمه “ميمون” تجده دائماً في سوق العبيد وعنده الأخبار. وحين توسلت إليه أن يخبرني إن كان قد رأى أمي نظر إلى نظرة ملؤها الخبث وكأنه يريد أن يفترسني، ولكنه أجفل حين علم أن “سمبا” هو من أتى مرافقاً لي. وحين رأى أن “سمبا” يراقبه كلمني بأدب، فقد كان يعلم أن “سمبا” هو أحد حراس قائد الجيش. نصحني “ميمون” ألا أبحث عن أمي بعد اليوم، وحين ألححت عليه في السؤال قال لي:
– سوف أقول لك نصيحة ولكن أرجوك لا تخبري أحداً أنني الذي أخبرتك بهذا لأنني ساعتها سوف أكون أحد ضحايا “ساري الليل”. أمك تم اختطافها ليلاً وهي عائدة من بيت قائد الجيش وتم أخذها بعيداً عن سوبأ. وواضح أن الذين اختطفوها هم أعوان “ساري الليل”. عودي إلى بيتك وابدأي حياة جديدة وانسي أمر أمك فلن تريها مجدداً. ولم ينس أن يتقاضى ثمن هذه المعلومات فقد أخذ مني عقدي الذهبي مقابل إخباري بأمر أمي.
– ياللهول يا “سُنْجَاتَا” !!
– قال هذا وأخذ العقد الذهبي ثم أدار ظهره وانصرف. وعدت إلى البيت وكأنني شبح من الأشباح. لم أكن أحس وقع أقدامي على الأرض وفقدت الإحساس بجميع أطرافي وأصابتني الحمى. وبقيت في الفراش أياماً وحين أفقت وجدت نفسي في بيت “سمبا” وكانت أمه هي من يقوم على خدمتي وتمريضي.
– ولماذا لم تأتي وتخبريني يا “سُنْجَاتَا”؟
– لم أكن أريدك أن تعرف هذا أو تراني وأنا ضعيفة!! رغم أنني كنت أعلم في قرارة نفسي أنك سوف تبحث عني. ولكن لم يطل بقائي كثيراً في بيت “سمبا” فقد قررنا اللجوء إلى القصر، أنا و”سمبا” الذي قدم نفسه عبداً للملك بينما وهبت نفسي لأكون جارية، لأنني كنت قد أصبحت بلا عائل. والقصر يوفر الحماية والطعام والكساء والمأوى كما تعلم. وبالفعل حصل “يوناس” على الموافقة وتم تسليمي لـ”مهارين” وأنت تعرف بقية القصة.
– ولماذا لم تخبريني بالقصة يا “سُنْجَاتَا” أو ترسلي أحداً ليخبرني بها؟
– قدرت ألا أخبرك حتى لا أسقط في نظرك. كنت أريد أن أبقى حية في ذاكرتك بتلك الأيام والذكريات الحلوة. كانت هي كل ما بقي لنا من ذكريات معاً، فلم أشأ تدميرها والقضاء عليها في نفسك حتى تبقى حية وقادة، وكنت أعلم أنها ستكون يوماً ما سبباً في جمع شملنا معاً. لقد افتقدتك كثيراً يا “سيس” وبكيت من أجل أننا لم نعد كما كنا من قبل. ولكن لست المذنبة كما أنه ليس ذنبك. أنا لا ألومك ولكن لماذا لم تبحث عني في القصر يا”سيس”؟
– وهل يعلم أحد غيرك بهذه القصة.
– الملكة تعلم كل شيء. لقد كانت تعرف أمي، وتعرف زوجة قائد الجيش، وبذلك فقد كانت تعلم أن أبي قد قتل في المعارك، وحين رأتني في القصر استدعتني إلى مخدعها وسألتني فأخبرتها بكل شيء عنا. وحين علمت أنك أصبحت “ترجمان الملك” أرسلتني لأكون معك. وها أنا ذي.
***
كان صوتها وهي تحدثني كأنه ينبع من أعماق قلبي وليس من فمها. رأيت الحياة وهي تعود إلى عينيها، حين كانت تحدثني. والفرحة تحلق فوق رأسها ثم تحط على جبينها الوضاء. كانت قد بدأت الكلام هادئة ولكنها انطلقت تحكي في حماس. نسينا أين نحن فاقتربت أيدينا وتشابكت والتقت أعيننا لأول مرة منذ عشر سنوات. وطرنا معاً في عوالم مسحورة. عدنا كما كنا صبيين نلهو ونلعب في دنيانا التي صنعناها بأنفسنا، غير عابئين بالناس والأشياء. كانت عوالمنا غير عوالم البشر وأحلامنا تحلق بلا أجنحة. لم نكن نحتاج للأجنحة. لم نسمع نداء “مهارين” وهي تعلن عن قدوم الملكة، ولا حركة الجواري وهن يتبعنها. الملكة أجفلت حين دخلت ورأت أن أعيننا لم تلحظ وجودها، وأيدينا تأبى أن تتخلى عن بعضها، وأننا في القصر بأجسادنا ولكن أرواحنا في عالم حقيقي بعيد. لم تكن تتوقع أن ترانا هكذا ولعلها كانت تطمع في حوار مرح ولذيذ معنا. ولكنها حين رأتنا هكذا أبرقت عيناها وابتسمت ابتسامة الرضى، ثم تراجعت في هدوء وهي تحاول أن تخفي وقع أقدامها حتى لا ننتبه، ووضعت أصبعها السبابة فوق شفتيها في إيماءة للجواري أن يصمتن، ثم أغلقت الباب وراءها برفق وهي تغادر، وانصرفت مسرورة.
***
ترجمان الملك
عمر فضل الله