لطالما شعرت، على مدى سنين طويلة، بأن بيتنا كان مسكوناً ومزدحماً بالشخصيات. لا يعتريني شكٌ في أنهم من لحمٍ ودمٍ، وليس حضورهم شبحياً، يزدحم بهم بيتنا الصغير. كانت فيروز تعرف مكان ركوة القهوة في مطبخنا، وفي كل صباح نسمعها تعاتب أمي لأنها تتقصد أن تشتري البن بلا هيل، فتُقسم أمي على أنه خطأ البائع، وتستمر فيروز في الغناء، بينما أمي تحرّك القهوة بملعقة صغيرة، ملتفتةً نحوها بإعجاب لا يوصف، تصبّ لها فنجاناً، وتطلب منها أن تريح حنجرتها، وتشرب قهوتها. تتكلمان في شؤون الأولاد ومتاعبهم، ومشاغل الطبخ، والأعمال المنزلية التي لا تنتهي، أقول لهما صباح الخير، وأمضي إلى مدرستي.
في الليل، أستميح أم كلثوم عذراً كي تناولني بلوزتي الصفراء، بينما هي منشغلة بتقليب مناديل أمي، لتختار أحدها لحفلة اليوم. أم كلثوم تستعمل مناديل أمي، من دون إذنها، وتتدخل في لون فساتينها. نجاة الصغيرة كانت تجلس قرب أختي رندة، كل يوم في الأمسيات الطويلة، تحيكان الصوف بسنانير ملوّنة، وتتحدثان بصوت خفيض، وحذر، عن الحبيب الذي يسكن في حيّنا “قصادنا تماماً”. تصمت أختي، فتمسح نجاة دمعة صغيرة نزلت على خدها. فجأةً، نسمع كلمة آآآآآه من بعيد، تأتي من الشرفة. أطلّ لأستكشف الأمر، نعم ها هو صباح فخري قد أنهى وصلته، ليقف أخي نجيب حاملاً بيده كاساً من العرق يرفعه عالياً، بينما رأسه محنية لهول ما سمع، ويصيح آآآآه من القلب، يبتسم صباح له، ثم يتناول كأسه، ويشربه على الصافي، نخب “آه” أخي، يجلس تاركاً جمهور حفلته لدوختهم، ويطلب منه أن يناوله “جاط” الفتوش، وقطعة خبز محمص، يكملان السهرة، وأنام قبلهما. في الصباح، أسمع أبي يطلب بخجل شديد مشوب بالاحترام، من عبد الباسط عبد الصمد، أن يعيد له “قصار السور”، مرةً أخرى… ثم مرة إضافية، فيتنهد عبد الباسط بعد أن ينهي “وإذا الموءودة سُئلت بأي ذنب قُتلت”، ويقول “صدق الله العظيم” على عجل، ويبتسم على غير عادته، ويطلب من أبي كوب ماء، وممازحاً يقول: “نشّفت ريقي يا حج… ما خلاص النهار ده… نكمّل بكرا… هات لنا كباية مية”.
عادةً ما يفوز محمد علي كلاي بفارق نقطة أو نقطتين، على أخي حسان، ويخرجان من الغرفة متعرقين، ويبدو الخجل على ملامح محمد، كونه يفوز في كل مرة، ويطلب مني باستعجال، أن آتي له بمنديل مبلل، وبعض الكحول. يفكّ “الغانات” عن يدي حسان، يبدأ بترطيب مكان الإصابة باهتمام وحنان كبيرين، ويقول له إنه كان مدهشاً هذه المرة، وإنه يتطور بطريقة تُخيفه من الخسارة أمامه في جولات لاحقة. يبتسم أخي، على الرغم من الألم، بينما تستمر أمي بتوسلاتها لمحمد علي كلاي كي يتوقفا عن هذه اللعبة العنيفة، ويبدأا بلعب الشطرنج منذ الغد. كانت هذه التوسلات تجعل كاسباروف يبتسم بهدوء، من دون أن ينظر ناحيتها، منتظراً أن يقرر أخي إبراهيم نقلته الجديدة. يرشف من كوب الشاي، ويضعه على الطاولة بهدوء المرضى، ثم يقول لإبراهيم: “كش ملك”… يبتسم إبراهيم للخسارة، ويطلب منه أن يلعب هذه المرة بالأسود.
كنت أتحمس للصخب والسجالات التي لا تنتهي، بين أخي مراد وأصدقائه في غرفة المكتبة. حينها، كنت في التاسعة من عمري، مجرد شبح يستمع باهتمام كبير إلى كل ما يقال، ولا يلمحه أحد. فجأةً ينتبه أرسطو لوجودي، حين كان يصرخ في وجه معلمه أفلاطون، ويقول له بما معناه أنت من سوّق للأوهام، ويقول لي: “لو سمحت كاسة عصير”. ينشغل أفلاطون بحديث جانبي مع أخي، غير مكترثٍ باتهام أرسطو، بينما يعلو صوتا ديكارت وداروين، حول أمر لم أفهمه. يتدخل ماركس في النقاش الدائر، ويطلب من لينين أن يخفض البندقية، حتى في وقت تنظيفها، ثم يتقدم نحوي بتهوفن ليناولني كمنجةً، ثم يقول: لا تخف… سأوزّع كمنجاتٍ على الجميع هنا، ليهدؤوا قليلاً. يبتسم للفكرة الشعراء الموجودون كلهم، وبالأخص علي الناصر، وبدر شاكر السياب، ونزار قباني، على الرغم من انشغال الأخير بمغازلة فروغ فرخزاد.
وحدهما، الماغوط وعلي الجندي، أكملا تكسير الثلج، بينما مظفر النوّاب يحمل ليتر العرق، ويتأكد من أن أخي لم يسترخصه، ويشتم الحكام العرب كلهم، من دون أن يستثني منهم أحداً. الوحيد الذي يسمح له بتهوفن بأن يستمر في العزف، هو منير بشير. ينظر إلى حيث يجلس مارسيل، ويقول له: أرجوك… أَنزِل عن كتفك هذا النعش، وساعد الرجل بأي شيء يخص الموسيقى. يضحك محمود درويش من قلبه، ويمدّ قدميه على الأريكة ليرتاح قليلاً، معتذِراً من أينشتاين، ومن الشيخ إمام. في زاوية ما، كان يطيب لعباس كيارستمي، وآل باتشينو، ومارلون براندو، أن يشربوا الويسكي بعيداً عن الصخب، بينما أحمد زكي ينظر إليهما من بعيد، بحسدٍ لطيف، ويخبر سعد الله ونّوس بأننا حقاً محكومون بالأمل الممل.
أختي يارا تكنس الشرفة، وتطلب من راغب علامة أن يناولها أي كيس لتجمع الأوساخ، فينفّذ المهمة محمد منير. يلتقي في طريقه إلى المطبخ، بميشال بلاتيني ينطّط الكرة، ويتحدى بيليه، وزيكو، وماردونا، بعدد المرات. يتأخر قليلاً، فترسل أختي في أعقابه ربيع الخولي، فيستوقفه جورج وسوف طالباً منه أن يأتي له بمنديل ورقي، وأن يخبر ملحم بركات بألا ينسى أن الشاي على النار، ويأتي بفنجان إضافي لعبد الحليم حافظ.
في آخر الصالة، قرب الباب، كان يقف بيكاسو غاضباً من مودلياني الذي لم ينظّف “الفراشي” بشكل جيد، ويستعير عصارة الأزرق من سيلفادور دالي، ويطلب من أختي أن تشد له لوحة جديدة. يدهشه أن المسيح يلعب طاولة الزهر مع الإمام علي، من دون أن يدخّنا ولو سيجارة واحدة، ومن دون أيّ شتائم.
كان ريمي الوحيد الذي تتقبل أمي أن يدخل، ويسأل عني وقت الدراسة. تضعه في حضنها، وتمسّد شعره، وتؤكد له أنه لا بد سيلتقي بأمه يوماً ما، لكنها في كل مرة تعتذر من سيلفر، وتقول له بكل لطف: “آسفة سيد سيلفر، إنه يحل واجبه المدرسي، ولا وقت لديه الآن لتشرح له خريطة الكنز”.
هؤلاء كلهم، وغيرهم الكثيرون ممن لا يتسع المجال لذكرهم هنا جميعاً، كانوا يسكنون معنا في بيت واحد، على مدى سنين طويلة. هؤلاء كلهم شاركوا أبي وأمي في تربيتنا. هؤلاء كلهم شاركونا أوكسجين حياتنا.
…