محمد الأصفر
في سبعينيات القرن الماضي: كان الفنان عبدالجليل عبدالقادر يدخن كثيرا ويفرط في شرب القهوة ، صالة البيت في حي المحيشي ضيقة ، لكن أصحاب العرس احتاطوا للأمر ، فأخلوا المنور الواسع والغرفتين الأخريتين اللتين تفتحان على الصالة من الأثاث ، ليس مهما أن ترى عبدالجليل وهو يغني ، المهم أنك تسمعه حتى وإن كنت أمام البيت ، العازفون يبدأون العزف ، وعبدالجليل يدخن ، ولا يبدأ مواله ، هناك لحظة معينة ينتظرها عبدالجليل كي يدخل عالمه ، وتكون كل الأمور في يده ، ديكتاتورية فنية يمارسها على المستمعين ، على الكلمات ، على الموسيقى ، على الآهات العفوية المنطلقة من أعماق حنجرته ، كل الحضور يتحولون إلى كورس ، حتى وإن كانت الأغنية أو التبرويلة جديدة ويسمعونها لأول مرّة ، يرددونها خلفه دون خطأ في الكلمة أو نشاز في اللحن ، معروف عن سكان المحيشي أنهم خليط من كل القبائل الليبية ، حيث امتزجت كل فنون ليبيا في إحساس واحد ، سهل عليهم التعاطي مع أي فلولكور سواء من الشرق أوالغرب أو الجنوب .البيت مليء بالمستمعين ومنهم من قد أتى من أحياء أخرى كالفويهات والماجوري والصابري والبركة وبوزغيبة والماجوري والرويسات وغيرها من أحياء بنغازي ، بل هناك من يأتي لحضور حفلات عبدالجليل من مصراتة ودرنة وطرابلس ، و يعم صمت القبور في الصالة المكتظة وحتى أمام البيت ، ويبدأ عبدالجليل في إطلاق مواله بصوت خافت ، وموسيقى شبه صامتة ، وسط عبّرة تختلط فيها الكلمات بالدموع ، فنان فمه يبكي وعيناه تغنيان ، أغلب أغنيات ومواويل عبدالجليل سيرة ذاتية ، سيرة عاطفية واجتماعية واقتصادية لمدينة تعاند حظا تعسا ، قلبه يحترق بالدخان بالألم بالإحساس ، ولا شيء يطفئ حرقة القلب غير الغناء ، أثناء الموّال الكل يصمت ، وكذلك أثناء الأغنية ، فتفاصيل صغيرة جدا في صوت عبدالجليل كهمهمة أو بحة أو حتى كحة بسيطة أو تحريكة رأس أو تسوية شعر أو سحق عقب سيجارة في المنفضة بطريقة عصبية مهمة جدا لعشاقه ومحبيه ومتذوقي فنه ، أثناء الموال والأغنية الكل صامت ومتيقظ ومتحفز للرد على عبدالجليل بشكل ممتاز يرضيه يجعله يواصل الغناء ولا ينهي الوصلة بعد بدايتها بقليل بكلمة بوريك ، ولكن أثناء التبرويلة يحدث بعض الابتهاج والضحك والمرح الذي يسمح به الفنان عبدالجليل ، خاصة عندما يرقص أحدهم وسط الصالة ثم يرمي الشملة على شاب خجول يتمنع أولا ويحاول أن يخرج ، ولكن لا يستطيع ولابد أن يرقص ، فهذا عرف أصيل في المرسكاوي .. ويرقص ، ثم يرمي الشملة ( حزام يربط على وسط الراقص وينزل قليلا على المؤخرة ) على شاب آخر .. والأجواء تكون مبهجة جدا ، وبالمناسبة لا يوجد في العرس شرب قرابا ( خمر محلي يوزع في الخفاء ) أو تدخين حشيش ، ولكن قد يكون هناك بين الحضور شباب شاربين أو مساطيل قبل دخولهم العرس ، لكن غالبا ما يكونوا مؤدبين يستمتعون بالغناء ولا يخرجون عن طورهم ، ويغادرون عند نهاية الحفلة إلى سياراتهم وإلى بيوتهم بكل رقي وذوق واحترام .. أغاني كثيرة غناها عبدالجليل ، قد تكون كلماتها في هذا الوقت غير ملائمة أو غير مستساغة لجيل اليوم ، الذين يغنون عنه ” جيل اليوم ماعنده عقيده .. لا ….. ولا يتسال عنه ” ، لكنها تظل تراثا شعبيا عبّر ذات يوم عن أحاسيس عاشها الإنسان في زمن ما وفي ظروف ما .. لكن بعض أغانيه مازالت معبرة جدا حتى عن وقتنا الحاضر ، و لا يمكن أن يتم تقييم عبدالجليل من خلال شريط كاسيت أو سي دي سجل بتقنيات فنية متواضعة ، لكن من حضر حفلاته الحيّة وعاشها واختلط به شخصيا وتعامل معه سيحس أنه أمام فنان كبير على المستوى الفني والإنساني والشخصي والرياضي .. باختصار كان عبدالجليل طيب القلب وخدوم وكريم وحساس جدا .. وكان يغني للأصدقاء .. و للحياة .. آخر مرة رأيته بعد الظهر يوم عيد الأضحى ، كان جالسا في صمت أمام نادي السواعد ، ينفث من سيجارته المارلبورو ، وكنت مارا بالسيارة ، توقفت ، عيّدت عليه ، هل تريد مكانا يا جليل أوصلك ، لا .. بارك الله فيك .. متريح هنا .. كانت محلات نادي السواعد جميعها مقفلة ، وكانت حركة السيارات قليلة ، الكل في حي المحيشي يعرف عبدالجليل ، والكل سيقدم له الخدمة إن احتاجها ، والجميع يعرف طبيعة عبدالجليل ، ورغباته في البقاء وحيدا متأملا ، لا تبدو على وجهه أي علامات غضب أو زعل ، كان مبتسما ، ويلوح للمارة العابرين ، ويرد السلام على مطلقه .. غادرت وأنا أنظر في مرآة السيارة التي أمامي ، ربما يرفع يده يطلبني أن أعود .. لم يرفع يده ظل ظهره للنادي ، ووجهه إلى الشارع ، بعدها توقفت سيارة ، ربما كان على موعد معهم ، عانقوه ، واركبوه السيارة ، وكرسيه المتحرك وضعوه في الصندوق الخلفي ، أبطأت السير فضولا ، كانوا متجهين نحو مفرق الوحيشي حيث محل بوراوي للمواد الغذائية ، انتظرت حتى وصلوا ، انعطفت يمينا ، وهم انعطفوا إلى الشمال ، وانطلقوا نحو حي السلام وسيمافروا الموت والطريق الساحلي ، هم أصدقاء أعرفهم من حرف سين ، سمر البشرة ، أكيد منطلقين بعبد الجليل إلى زردة قصيرة في المنقار أو عين زيانة أو غابات مشروع رقم 2 ذات الأشجار القصيرة.
من كتابي البطل يموت من أول لقطة .. دار الكتاب تونس