
يعدُّ الكاتب السوري نبيل سليمان أيقونة فكرية وإبداعية ونقدية بارزة، في الأدب العربي المعاصر؛ حيث استطاع، فيما يزيد على نصف قرن، أن يطرح مشروعاً فكرياً وسردياً متكاملاً، يتضمن النقد والرواية والقصة والدراسات الثقافية. وليشكّل مرآة فنية عاكسة، للتحولات السياسية والاجتماعية الحادة، التي عصفت بالعالم العربي، وبخاصة سوريا، في ظل راهن معيش، يعاني من السيولة السياسية، وشروط عولمة جديدة، ودول كبرى، تشكل الكوكب وفق منظورها الخاص، ومصالحها المستقبلية.
وقد استطاع سليمان عبر إنتاجه الغزير، الذي يتسم بالجرأة والجسارة، أن يستلهم التاريخ ويستنطقه في قراءة راهن أمته، وينقب في الذاكرة الجماعية لها، ليرصد علاقة الذات العربية بالعالم، مستعيناً في ذلك بالشعرية السردية الحداثية وما بعد الحداثية، لا سيما الروائية منها، لطرح رؤى تحليلية عميقة للواقع العربي والسوري، في عقود زمنية متعاقبة. وذلك من خلال منجز ممتد، منذ عام 1970، في روايته الأولى «ينداح الطوفان»، وانتهاء بروايته «تحولات الإنسان الذهبي» 2022، مروراً برواياته «السجن» 1972، و«ثلج الصيف» 1973، و«جرماتي» 1977، و«المسلة» 1981، و«مدارات الشرق» 1993، و«أطياف العرش» 1995، و«مجاز العشق» 1998، و«في غيابها» 2009، و«دلعون» 2010، و«حجر السرائر» 2010، و«مدائن الأرجوان» 2013، و«جداريات الشام (نمنوما)» 2014، و«ليل العالم» 2016 (محل الدراسة)، و«تاريخ العيون المطفأة» 2019، ومجموعة قصصية بعنوان «قيس يبكي» 1988… وغيرها، فضلاً عن كتاباته النقدية والفكرية.
المتأمل في المشروع الروائي لسليمان يدرك بجلاء قدرته المتميزة على تضفير التاريخي بالمتخيل، والحقيقي بالرمزي، والتوثيقي بالفلسفي، ضمن خطاب سردي معقد، يشكل وثيقة فنية، تكشف المسكوت عنه في الواقع السوري العربي الممزق. الذي شهد تصادم الأيديولوجيات، وتصاعد الصراعات الداخلية، ما أدى إلى ضياع الهوية، وتفاقم الحصار الفكري والاجتماعي. ومن هنا، تبدو روايات سليمان بمثابة نقد جريء لكل أشكال القمع، سواء السياسي أو الديني، خاصة مع تنامي التطرف الديني الناجم عن الفراغ السياسي، ودور المجتمع نفسه، في ترسيخ أنماط القهر، عبر منظومة قيم اجتماعية صارمة، تفتقر إلى الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وهكذا، يشكل منجزه السردي، خطاباً إبداعيّاً تنويريّاً، يطرح أسئلة وجودية كبرى، عن القمع والهوية والحرية والمواطنة، وينشغل بمستقبل الإنسان العربي وقَدَرِه، في ظل تحولات صادمة، ومآزق تاريخية، تعصف بواقعه القومي، ويحيكها محيطه الدولي. فسليمان يعيد قراءة التاريخ العربي في نصوصه الروائية؛ حيث يستكشف العلاقة الجدلية بين الفرد والتاريخ، محللاً التناقضات التي تشكل الوعي العربي، ومسارات أحلامه، التي غالباً ما تجهضها التحولات السياسية والاجتماعية.
(2)
تعدّ رواية «ليل العالم» إحدى الأعمال الروائية البارزة، التي وثَّقت التراجيديا السورية، ومشاهدها الكافكاوية المأزومة، التي امتدت عبر عقود، وأجيال متعاقبة، منذ ستينيات القرن المنقضي، حتى عام 2015، مروراً بثورات الربيع العربي، لا سيما الثورة السورية آذار/مارس 2011. حيث رصدت التحولات السياسية والاجتماعية التي عصفت بسوريا، في ظل قمع سياسي وصراع هوياتي مقترن بالتعدد العرقي والمذهبي، من خلال خطاب تخييلي، يشتبك مع واقعه التاريخي، وشعرية سردية ما بعد حداثية، معقدة ومتعددة الطبقات. تتماهى فيها السرديات الشخصية، بالقضايا الكبرى؛ لتطرح شهادتها على تاريخها السوري العربي المعاصر، مستعينة في ذلك، بالواقعية الفنية، وسياقاتها الرمزية، في نقدها للأوضاع المتشظية، البعيدة عن الدولة المدنية الديمقراطية.
وفق هذا الإطار السياسي التاريخي، ينطلق هذا الخطاب الروائي من حاضر سردي مأزوم، وشعرية سردية بلفونية ما بعد حداثية، وبنية دائرية رامزة، تبدأ بالموت الفيزيقي وتنتهي بالموت النفسي، وفضاء جغرافي مركزي، يتصدر المشهد السردي، ويجسد حال الواقع السوري العربي، الذي سقط في أيدي الفاشية الداعشية، فأجهض الحلم الثوري السوري في مدينة الرقة، التي تحولت من ساحة احتجاجات سلمية، إلى مركز لتنظيم داعش، وإعلان الخلافة الإسلامية. فخنق صوت الثورة/ هفاف العايد، مع الانطلاقة الأولى للسرد، بعد اتهامها بالكفر، وإغرِاق الوطن/ المثقفُ منيب خلف الحسين، مع نهاية أحداث الرواية، بعد أن حلم بالتغيير، فوجد كابوساً داعشيّاً، ناجماً عن الفراغ السياسي، «في قفص حديدي صغير زُجَّ بمنيب وموسى اللذين قيدت أيديهما، وربطت أرجلهما إلى كتلة حديدية كبيرة تتوسطهما. وتضافرت أيدٍ وأقدام وتكبيرات هائلة على دفع القفص إلى النهر، ونزعت يدٌ الراية السوداء المركوزة أعلى القفص الذي راح يتهادى وهو يغرق شبراً شبراً…»/ الرواية/ صـ461. فالأنماط الإنسانية المثقفة في عالم سليمان تعاني من التمزق والتناقض الداخلي، بين هويات متصارعة، وانتماءات فكرية محبطة، تحلم بالحرية والمقاومة، لكنها تتلاشى من الاضطهاد والانسحاق. في ظل واقع مظلم، يأتي متسقاً مع دلالة العتبة المركزية للرواية «ليل العالم»، التي انتقلت بالقمع السياسي إلى القمع الناتج عن التطرف الديني، الذي يمثل أبشع درجات الظلمة، لهذا العالم على الصعيدين القومي والدولي. ومن ثم تفتقر الشخصيات الروائية، في «ليل العالم»؛ لا سيما منيب، إلى هوية محددة، وسط واقع يعاني من الفوضى، والاستلاب، والتمزق الإنساني، بين ماضيه في بانياس والثأر المتوارث، وراهنه في الرقة، والانقسام الهوياتي، في صراع العشائر والطوائف والإثنيات، العربية والكردية والمسيحية، التي أصبحت جميعها ضحايا للحرب والتطرف. فـ»لم يبق في الرقة كردي، ولا مسيحي، ولا علوي، ولا درزي، ولا… العربي يفر والسني يفر ومن لجأوا إليها فروا منها. رقتك صارت ملعباً لمن يلعب من مشارق الأرض ومغاربها…»، الرواية/ صـ438. فانتقلت الرقة/ سوريا/ العالم العربي، من مدينة للتعايش السلمي، والتسامح الديني، إلى وطن طارد، بعد تنامي أفكار التطرف الداعشي.
ورغم هذه الهيمنة السياسية الواضحة، في رواية «ليل العالم»، فقد ضفرها الراوي بسياق إنساني رومانسي، متسق مع رمزيتها؛ حيث أجهضت علاقة الحب النبيل، بين منيب وهفاف، اللذين يجسدان رمز الثورة والوطن، ولم يكن مصيرهما غير الموت الداعشي. فهذه العلاقة الإنسانية، تجسد حالة من الصراع المحتدم، بين حلم مبكر بالتغيير، وواقع داعشي مظلم، وَأَدَ الثورة قبل اكتمالها، كما خُنِقَت هفافُ، وأُغرِق منيبُ. هذا المصير التراجيدي يعكس ضبابية الرؤية، والمستقبل المجهول، وضياع الحلول، حيال الأزمة السورية، وليلها الذي لم ينجلِ بعد.
ولعل هذا المصير المشئوم، المهيمن على مقدرات الواقع السوري، كما يتجلى في نص سليمان، يمثل نقداً للسياسات القمعية، التي دفعت الشباب إلى الثورة، ورفضاً حاداً للفصائل المتطرفة، التي اختطفت الثورة، وحوّلتها إلى صراع عقائدي، وهو ما حول حياة السوريين وواقعهم، إلى سجن شامل، بالمعنى الوجودي، على الصعيد النفسي والفكري والاجتماعي والسياسي. فنرى منيب عالقاً في سجن الخوف والثأر، بسبب خلفيته العشائرية، وهفاف التي بدأت مشرقة أُحكِمت عليها القيود، بين مجتمع محافظ، وسلطة داعش القمعية، وسكان الرقة، الذين أصبحوا أسرى مدينتهم، التي تحولت إلى سجن مفتوح، تحت حكم المتطرفين. كما امتد هذا البؤس إلى الشباب، إذ نجد موسى العايد، شقيق هفاف ورمز الشباب الثوري، يُجبَر على القتال ضد داعش، بعد أن خُدع بالمثالية.
ومن جهة أخرى، تجلت مأساة الأقليات المسيحية من خلال شخصيتي باسيل وميرا، اللذين وُضِعَا أمام خيارين أحلاهما مرّ: التهجير القسري أو الموت الداعشي. أما أبو لقمان، القائد الداعشي، فقد خرج من سجن صيدنايا، بقرار من النظام السوري، في خطوة تهدف إلى إفشال الثورة، مما يُظهر الرواية، كمرآة نقدية تعكس ازدواجية الأزمة، حيث لا يبرئ الراوي السلطة السياسية، ولا يعفي المعارضة أيضاً من مسؤولياتها، بل يتبنى موقفاً محايداً، يحلل تعقيدات المشهد السوري دون انحياز.
(3)
وفق هذا الواقع الإنساني الفوضوي، يطرح سليمان نصاً روائيّاً متماهياً مع حال وطنه؛ حيث يأتي خطاب «ليل العالم»، بفصوله الستة «كالمقدمات، وكالمتون، وفصول من زمن الخنق، وفصول من زمن العشق، وفصول من زمن التيه، وفصول من ربيع أبيض.. ربيع أسود». عبر بنية تتسم بالتشعب السردي، والفوضى النصية المحكمة، التي تتكئ على سرديات صغرى، ما بعد حداثية، تمثل فوضى العالم، وعبثيته؛ حيث تتشظى الأزمنة بين راهن سردي ممزق، واسترجاعات ماضوية ممتدة، تطرح أحداثاً وشخصيات، تمثل تيارات فكرية متباينة. كالمتحرر المستقل منيب، والبعثي الانتهازي الرفيق محسن، والمؤيد المتعصب للنظام عبد العفيف غنام، والمسلم المعتدل مدرس الدين عبد الجبار الخليل، والشيوعي الدكتور مطر الزغَّال، والإخواني، ومن أفرزتهم السجون متطرفين أبو لقمان، والمواطنة المسيحية أم باسيل التي تحولت إلى ذمية، والكردي قارو الذي أجبر على الرحيل. الجميع يعيش بين مطرقة السلطة وسندان داعش، في سياق عبثي دالٍ، يستقي فلسفته الرامزة من مقولة «مكبث» في مسرحية شكسبير 1606: «إنها حكاية معتوه، ملؤها الصخب والعنف»، التي تشي بدكتاتورية السلطة، وعبثية الحياة، في عالم مليء بالصخب والعنف والصراعات والإحباط والياس، كما يتجلى في حوار منيب مع موسى العايد:
«… قال موسى كنت أقاتل. لا تسألني مع من. قاتلت الجيش وقاتلت داعش وقاتلت موسى العايد نفسه، هل تعرف أحداً بهذا الاسم؟ هل تعرف أنت أحداً باسم منيب حسين الخلف: سأل منيب وهو يقاوم أن تخرج منه الروح… بعد صمت أطول قال موسى إنه مهزوم مثل أي سوري، وهذه الحرب ليس فيها غالب يا منيب. كل سوري في هذه الحرب مغلوب…»، الرواية/ صـ460. بهذه الروح المنهزمة الحيرى للذات السورية، تصاعدت السياقات الدرامية، وهيمنت مشاهدها الحوارية، التي حافظت على الإيقاع المعتدل لسرعة السرد، ومنحت الجميع، قدرة على البوح بموقفه تجاه واقعه المتشظي، فتعددت الأصوات السردية المشاركة، والمجهولة «يروى أن…»، والضمائر المتنوعة، وتقنيتي اليوميات والمراسلات، المؤرخة من عام 1977 إلى عام 1983. ثم أضحت المراسلات بلا تاريخ؛ لا سيما بين منيب وهفاف، لأنهما يتنقلان بين اغتراب الوطن الضائع، والغربة القهرية «الجزائر ولبنان ودبي والشارقة»، حتى تجلى الخطاب الروائي، بلغته المشبعة بأنين الحرب، وعذاباتها، صورة متصدعة، لواقع مخيف، ومستقبل ضبابي.
وعلى ما سبق؛ استطاع الكاتب السوري الكبير نبيل سليمان أن يطرح موقف المثقف السوري والعربي، تجاه الأزمة السورية والعربية، من خلال خطاب تخييلي يتجسد في رواية «ليل العالم»، يهدف إلى الكشف عن المسكوت عنه، في الواقع السوري العربي، مشخصاً أسباب نكباته، وحروبه، آملاً في التنوير والإصلاح، ساعياً إلى تشكيل خطاب ثقافي إبداعي، يشارك في بناء مستقبل أفضل، للإنسان العربي. وذلك من خلال طرح قضايا إنسانية وجودية؛ مثل العدل والحرية والهوية والانتماء والمواطنة، التي يشارك فيها حقوق الإنسان الكوني، ومن ثم يطرح سليمان شهادته للتاريخ، من خلال نص تخييلي، متشابك طوال الوقت، مع واقعه، وآلامه وطموحاته المأمولة.
المصدر: القدس العربي