د. نهال عقيل
إنّ دوافع كتابة السيرة الذاتية وقراءتها كثيرة؛ إنها جدلية قائمة بين الكاتب والقارئ وبين الكاتب والناقد الكاتب يعيد النظر في مرآة الذات، يستنطق الذاكرة وكل أحداث حياته؛ تاريخ الطفولة والعائلة والعمل والسفر ورحلة الكتابة وكيف ولماذا أصبح كاتبا؟ فالسيرة محفوفة بالسؤال لأنها لصيقة بـ أنا الكاتب الحقيقيّة فتبدو حياته مثل شريط فيلم قصير جدا. والسؤال المطروح على فن السيرة الذاتية هل يختار الكاتب في السيرة وفق مبدأ الانتقاء مشاهد في حياته دون غيرها أم يلتزم بمبدأ الصدق الخالص؟! وماذا عن التذكّر والنسيان؟! النسيان المقصود والنسيان غير المقصود؟! بحسب جورج مور: “إنّ المرء ليطالع ماضي حياته مثلما يطالع كتابا قد مزّقت بعض صفحاته وأتلف منها الكثير.”
“نشيج الدودوك” سيرة الروائي الأردني “جلال برجس” وغايتهُ الرحلة نحو الاعماق وتنقيح الذاكرة ومسح الغبار عنها لرؤيتها أمامه ساطعة متوّهجة. كأنه في رحلته جلجامش وغايته الجليلة البحث عن عشبة الخلود ومنح الحياة لصديقه الميت أنكيدو
ألا تتشابه رحلة جلجامش مع رحلة “جلال برجس” في سيرته صوب الماضي ينقّحه من جديد؟! ألا تعني السيرة برمتها بث الحياة وترميم الذاكرة الميتة؟! يمضي جلجامش”نشيج الدودوك” بكامل العرَج، نصفه إنسان ونصفه إله هاربا، متأملاً، عاشقا، وحيداً عدّته الضجيج الجوّاني والغابة/الذاكرة
ثلاثة أفكار جوهرية تتمحور حولها سيرة “نشيج الدودوك” بعلائقية نصيّة وفكريّة وجماليّة وهي: المرأة والكتابة والطيران (السفر). فـ (الجدّة _ التاريخ) هي الضجيج الجواني _عنوان الفصل الأول_ والطريق الأولى وحافز الكاتب لاقتحام عالم طفولته يقول: “في السابعة من عمري حدث لي أمر أستصعب تفسيره للآن… حدث أمر الحكاية هذا بالصدفة في شتاء عام 1997م، لم تكن (حنينا) بهذه الشراهة الإسمنتية نحو رعونة الزحام … صدفةً شعرت فيها بيدين تسحبانني نحو عوالم الرواية.”
بدأت الرحلة بالجدّة/ الحكاءة الأولى؛ امرأة قوية أشبه بشهرزاد سيّدة الحكايات، للجدّة أكبر الأثر في الكشف عن شغف الطفل بغرائب الحكايات والقصص، وشحذ مخيلته، ولاحقا الكشف عن مارد الكتابة المخبوء في أعماقه.يقول برجس: “حينما أقرأ رواية أصير مؤلفها، إنها ليست حالة من تقمّص المكتوب بقدر ما هي تقمّص لحالة الكاتب الذي أمضى سنوات وهو يجسّد الفكرة.” وعن عظمة الجدّة ومكانتها في روحه وأثرها العميق يصفها:” هل قرأت جدتي ديستويفسكي وتشيخوف وتشالرز ديكينز ومحفوظ وباختين وكل من وصلوا لقمم السرد وأعادوا صياغة العالم عبر رواياتهم؟؟ أم أن هؤلاء قرأوا الجدّات جيّدا؟!”
سؤال جوهري يحيل إلى تشكيل شخصية الكاتب في طفولته، ويبيّن أثر الجدّة والحكاية في مسيرة حياته واستعداداته للكتابة والإبداع
(المرأة الجسد _ الطيران كشف الغلاف بوصفه هوية بصرية تحقق التواصل مع القارئ قبل الشروع في قراءة النص. عن وشائجية عميقة بين المرأة وفكرة الطيران. وبين الطيران وفكرة الكتابة كعقاب أبدي للإنسان
غلاف “نشيج الدودوك” عبارة عن فتى ممسك بخيط يتصل بمنطاد مزيّن بالنجوم. والفكرة برمتها ليست بمنأى عن شغف جلال برجس بـ “الطيران” والسفر
في الميثولوجيا اليونانية ارتبط الطيران بـ”إيكاريوس” ابن “ديداليوس، وهي قصة عقاب “مينوس” ملك الجزيرة لكليهما، وللهروب من العقاب استعان الاثنان بأجنحة ثبّتاها على ظهريهما بالشمع، لكنّ إيكاريوس أغواه الطيران قريبا من الشمس متجاهلا نصيحة والده بعدم الاقتراب؛ فهوى في البحر جراء ذوبان الشمع المثبت على أجنحته
إلى أيّ حد تتفق فكرة الغلاف/ الطيران مع مضمون السيرة، وهل وقع الكاتب في فخ السقوط المروّع للبوح والكتابة (سر الخلود) ؟؟
كان “برجس” شغوفا بالسفر والطيران حقيقةً ومجازا. “في أولّ مرة حلّقت الطائرة بي مسافرا، شعرت بغصن ينمو في كتفي، وسمعت الماء يخبرني بأسراره”. ثلاث رحلات لأماكن مختلفة هي (الجزائر) بصحبة رواية “الغريب” لـ “ألبير كامو”. و(لندن) بصحبة رواية” موسم الهجرة إلى الشمال” للطيّب صالح. و(أرمينيا) بصحبة كتاب لـ”رسول حمزاتوف”
لقد ارتبط الطيران مجازا عند “برجس” بالكتابة والإبداع:” أقسمتُ لأقراني أني أطير بلا جناحين، وفي اليوم التالي رفعتُ أمام أعينهم كتابا ورحت أروي لهم الحكاية.”، وارتبط فعل الكتابة الإبداعي عنده بالمرأة. فقد اقتحم عالم المرأة أو اقتحمته هي بعالمها سيان. فالكتابة برأيه خلخلةٌ وإزاحة ما عن المألوف في الذاكرة تجعله مندهشا طوال حياته. وذلك إشارة إلى امرأة عارية رآها في طفولته فألهمته الخيال في الكتابة والحقيقة. وجسدّت في روحه قيم الجمال ومقاييسه. سياق هذه المرأة في حياة “برجس” يذكّر بأسطورة بيجماليون؛ العاشق الذي عشق تمثاله الذي نحت. يقول:” لم أختر أن أصبح كاتبا، ثمة حادثة وقعت لي في صباي جعلتني أرى ومن يومها وأنا أحاول شرح ما رأيت.”
المرأة الأم _ الذاكرة _ الحياة_ الموت
شكلت لدى كاتب السيرة مفاهيم الوجود وعنوانه. لذا ارتبطت “الأم” عند الكاتب بـ “نشيج الدودوك”. عنوانٌ فيه سيميائية عميقة ووجدانية للحزن وانبعاثاته في أعماق الروح
“نشيج الدودوك” يطرح سؤالا سيكيولوجيا مهما عن العلاقة التي تربط النشيج بصاحب السيرة. يقول برجس: “أمضيت عاما من العيش معي على أرض الورق.” وبحسب تقويم الروزنامة قضى المؤلف في عزلته شتائين كاملين في ضيافة الحزن ووقع مزاريب الشتاء والذاكرة معًا
“نشيج الدودوك” حزن “برجس” في صحبة الأم في حياتها وحتى اللحظة الأخيرة لمماتها، ومساءلة بطل رواية “الغريب” عن موقفه العبثي وبروده مشاعره وتناقضاته لدى سماع خبر وفاة أمه. يقول: “أنا لست ميرسو، أنا الذي ما زلت أقبّل أيادي الأمهات بحثا عن رائحة يد أمي.”
“نشيج الدودوك” هو قسوة الأب وحنانه معا، وقوته في مواجهة مصيره الحتمي أمام المرض العضال، ومواجهة موت الزوجة بثبات من ازداد الانطفاء في وجهه من مرارة الفقد
“نشيج الدودوك” هي موت العم عزيز إنسان عميق الأثر في حياة الكاتب وشخصيته وثقافه
“نشيج الدودوك” موت الجدّة التي ما عادت تطيق العيش بين وحشة الجدران وإنما ظلت روحها رهينة بيت الشَعَر ومشهد الأغنام في المراعي.
“نشيج الدودوك” هروب الكاتب إلى عالم الكتابة وعزلته:”أكتب لأهرب وأحيانا أشعر أني أعدو إلى الكتابة بحثا عن أسلحة لم توجد بعد لأهزم تلك الوحوش، وأفتت طبقة الحزن. وأدحر عني ضجيجي الجواني.”
“نشيج الدودوك” هو العيش في الصحراء ستة عشر عاما وحلم الكتابة يغفو في ناحية ما مجهولة في أعماق الكاتب
“نشيج الدودوك” هو الموسيقى التي تردد صداها في أحد الأديرة في جبال أرمينيا. فأيقظ الذاكرة بنشيجها ونحيبها. يقول برجس:”إذن تلك الموسيقى التي كنت أسمعها، أو أتخيلها طوال ما سبق من سنين عمري، هي للدودوك.”
الدودوك سيّد الذاكرة وموسيقى الأعماق الحزينة.صوت الذاكرة والرغبة بالبكاء. خسارات الآدمي المتتالية، نحيب الروح التواقة لفضاء لا نهاية له، نافذة على الماضي، على الحاضر الملتبس وعلى أيامه القادمة
نهال عقيل
روائية وناقدة من الأردن