تفاعل استعاري…
بين “الشكل الانساني واللا انساني”
خالد خضير الصالحي
“تروى الأرض بنا فتنبت البذور”
(غصن داخل زجاجة) ص 55
1
مذ فتحت الهام الزبيدي عينيها، وجدت والدها النحات ناصر الزبيدي وقد ملأ البيت ومشغله بجذوع أشجار تنتظر دورها لتصير تماثيل، وهو ما صار يفعله أخوها محمد الذي (ورث) صنعته عن أبيه… فكأنما جاء ديوان الشاعرة الهام ناصر الزبيدي بعنوانه (همسات شجرة الجوز) عنوانا متماهيا مع ذكرياتها وعائلتها عن والدها نحات الشجر الذي ملأ مشغله بجذوعها، وهو ما خالطه من ميثولوجيات شعبية عن الأشجار التي تسكنها الأرواح، تلك التي ترسخت في المخيال الشعبي أقوالا وحكايات وأمثالا شعبي… “فحل التوت بالبستان هيبة”.
2
واذا كان التشاكل الصوري يتجسد في الشعر بنمط من التفاعل الاستعاري بين مستويين من مستويات الصورة؛ كما يقول شكسبير “الديك بوق الصباح”، إلا ان المستوى الأكثر عمقا من التفاعل الاستعاري بين “الشكل الإنساني واللا إنساني”، أو قل بشكل اشمل، بين الوجود الاستعاري الإنساني واللا إنساني، وهو ما يؤكده فانكوخ في إحدى رسائله إلى أخيه “يشبه صف من أشجار الصفصاف موكبا من رجال دار العجزة”، وفي جملة أخرى تتشاكل صورتا العشب والتعب الإنسانيّ، حيث يبدو “العشب المُداس بالإقدام على جانب الطريق متعبا ومتربا مثل الناس التي تعيش في أحياء فقيرة”، و”تقف مجموعة من نبات الكرنب الأبيض متجمدة، ومشلولة، كمجموعة نساء بتنوراتهن الرقيقة وشالاتهن القديمة”، وهذا الفعل الصوري يشعر به الرسامون بشكل خاص نتيجة ارتباطهم بما هو بصري، فقد لاحظ بيكاسو “إلى أي حد يشبه جذع جوز الهند الجذع السفلي للمرأة….”، وفي بعض الصور الفوتوغرافية يلاحظ بيكاسو كيف “تستحضر القشعريرةُ الظاهرةُ على الجسد، قشرَ البرتقالة”، وهو ما لاحظناه في ديوان (همسات شجرة الحور) حينما تختلط الصور والمراثي بين رثاء الأب ورثاء النفس وشجرة الجوز التي تتكئ على جنبها في مشغل ناصر الزبيدي نصف منجزة وكأنها تصور مرحلة وسطى من ذلك التشاكل الصوري الذي يبلغ حد التوحد والاندماج مع الآخر، بين الإنسان (الأب)، وأنا الشاعرة، وبين شجرة الجوز… ويكون ذلك التشاكل الصوري بمستويين هما: التشاكل الصوري مع الموجودات مع الأشياء حد التوحد أحيانا ومنحها صفات إنسانية، والتشاكل الصوري مع الآخر الإنسان الذي يبلغ حد التوحد معه واتخاذه قناعا للحديث بلسانه..
حيث تفهم الهام الزبيدي الشعر باعتباره لغة بدائية، ناتج مرحلة ما قبل الوعي الحضاري حيث هنالك عالم تمتزج فيه الوقائع بالاساطير، فتكون للوقائع أرواح بشرية..
“رياح اثقلتها ملوحة البحر”
(عتاب) ص33
“بحرٌ البسته الغيومُ لونها الرماديَّ”
(صدفة على الشاطئ) ص37
ويبلغ التشاكل بي الأشياء والصفات البشرية حدا كبيرا نقتبس شذرات منها توضح ذلك:
“تساءَلَتْ
هل سبق لأحدكم ان توحد مع
الاشياء….؟؟؟”
“هل سبق ان أحسستم،،،
أنكم هذه الأشياء”
“هل سبق ان استنشقتم زهرة ……..
جعلت منكم سائلا شفافا
داخل زجاجة بنفسجية ذات غطاء ذهبي
كانها دمعة من عين حبيبة”
“هل كنتم في يوم ما شلالا
تتعمد الارض بمياهكم،
ويعانق رذاذكم الريحَ”
“هل شعرتم بأنكم…………..
ريح في يوم شتوي،
او ربما مدفأة تتجمّع……………..
حولها العجائز والصغار”
“احست انها غصن ”
“احست انها غصن نبات
ينمو داخل زجاجة
او ربما تحولت
منذ ذلك اليوم الى ………….
غصن
يعيش…………. داخل زجاجة!!!!”
(غصن داخل زجاجة) (ص 52 – 59)
“كتلة الموت … فوق الساتر أتت
من غير موعد اتت”
(خلف الساتر) ص 24
“الربيع
خلف جدران بيوتنا ينادي
الاقحوان فتح عيونه الصفراء
وصرخ بنا
اين انتم؟؟؟؟” (جمرة) ص 31
“تركَت الناسَ ورحَلَتْ
الى عالم … العصافير
تعلَّمتْ لغتهم…. فغردت معهم
وتنقلت بين الاشجار…
راقصة معهم
ويوما بعد يوم بدأ الزغب الحريري
الابيض….
يكتسج جلدها
(عصفورة) ص50
3
ان درجة الانسنة التي بلغتها نصوص الهام الزبيدي، هي تشاكل صوري مع الإنسان الى درجة ان منحت الموجودات صفات إنسانية… فجاءت خلاصة الشعر معتمدا على الإزاحة بالدلالة، فالثلج يصبح أكثر بياضا حين يلامس يدك، وحيث لا تنتهي الأشياء ولا تبتدئ.. والدرب لا يعرف إلى أين يمضي؟!، فكانت الهام الزبيدي تفهم الشعر باعتباره لغة بدائية لغة، هي في حقيقتها، ناتج مرحلة ما قبل الوعي الحضاري حيث هنالك عالم تمتزج فيه الوقائع بالأساطير (ص31) وتكون للوقائع أرواح بشرية..
4
تشتغل بعض ملفوظات السرد في قصيدة الهام الزبيدي، ولكنها ليست بالضرورة تتحقق كلها (الحبكة، والوصف، والحوار الخارجي، والمونولوج)؛ فأحيانا يظهر في خطابها عند الشاعرة في حوار مع الآخر (الأب) المتخيل والمستدعى إلى نسيج النص، ففي أول ثلاثة اسطر تستدعي الشاعرة نمطين من ملفوظات السرد من خلال حوار يطلقه الآخر عبر لغة (السارد – المؤلف).
“اشعلي الليالي تحت قدميَّ
حتى أجيد البكاء على كتفيكِ
هذا ما قلته…………
والصمت أخذكَ”
(حديث) ص 9
5
كان رثاء النفس يجري، في ديوان الهام الزبيدي، عبر رثاء الآخر، فالديوان ما هو إلا خطاب رثاء للأب النحات ناصر الزبيدي، وهذا الخطاب هو ما تشعره الشاعرة، وربما تشعر عائلة النحات الزبيدي، انه خطاب (رثاء) داخلي تعتقد الشاعرة إنها تمتلك شرعية التحدث عن السنته الثلاثة: لسان الراثي والمرثي والمرثية، وهو ما يؤكده الإهداء “إلى من روحه باقية فينا لتملأنا حبا ووفاء وعذوبة .. أبي .. اهمس وأبوح لك.. ما بداخلي”، عبر حوار رثائي محزون ينطلق هذه المرة من أنا الشاعرة إلى الآخر الغائب (الأب):
“كم احسدُكَ
يغول بك الزمن
تمتد جذورك عبر السنين
تشيخ اغصانك”
(باسقة يا شجرة الجوز) ص7
ان (خلاصة الشعر) عند الهام الزبيدي يعتمد على الإزاحة بالدلالة:
“غيمة تداعبها الريح
تعبث بأشلائها البيض
تهدهدها على صفحات زرق
الغيمة تزداد غنجا
(؟) ص 29
6
تعود مرجعيات الهام الزبيدي إلى النصوص التراثية أحيانا، ولكنها تتعامل معها بشكل يسمح لها بالاندغام والتشاكل في النص الأخير، رغم أنها تومئ، سواء من قريب أو من بعيد، بمصدرها البعيد الذي يبقى يشكل مخزنها الدلالي الضخم…
“يا قادما من بعيد
اخلع ذكرياتك عند الباب
وادخل”
(أنت) ص44
7
يشكل البوح الأنثوي صوتا مكتوما بشدة في نصوص الهام الزبيدي لم يظهر بشي من الوضوح إلا في الصفحة الأخيرة من ديوانها:
“هيا معي يا حبيبي كفانا ترددا
،،،،، وخوفا ،،،،،،وحذرا
هيا
ولنرحل،،،،،،،،،،،،
على دروب القمر
ولا تنس حقائب السفر مملوءة
بصوت فيروز وزهوري
واوراقك للشعر
واكتب ياحبيبي اول قصيدة حب
لنغنيها معا ،،،،،،،،،
ونحن نسير
على دروب القمر”
(على دروب القمر) ص 70