د. واثق الحسناوي – جامعة المثنى
6 ـ رفض الحكّام للمتعاونين مع الاجنبي المُحتل
ما يلفتُ الانتباه، هو اختيارُ الشاعر للعنوان بوصفه عتبة نصية، من خلالها يتم دخول القارئ الى فحوى ومضمون النَّص وقصدية الشاعر/ المرِسل، فكان موفقا فعلا في جذب الانتباه والتـأمل فيه؛ كونّه أحجية أراد الشاعر أن نفهم حلّها، ولكن بطريقته الخاصة، إذ يقول
لا طاعة لحاكم محكوم
لماذا يمشي الطاووس متبخترا؟
آلا يعرف انَّه ودجاج حديقة الحيوانات
يسكنون قفصا واحدا؟ (43)
فالشاعرُ يدعو الى التَّمرد على طاعة الحاكم المحكوم، فهو تضاد دلالي ورفض هذه الطاعة العمياء المزيفة، ورفض ذلك الحاكم الذي يتبختر كالطاووس وهو لا يعني له شيئا مهما تبختر في العابه، وفنونه البهلوانية على الشعب، فهو معروف اسوةً بغيره من حيوانات الحديقة / الحكّام العرب المحكومين من الغرب او الخارج بالأحرى في قفص العزلة .ويستغرب الشاعر في القصيدة نفسها، مِمَا سمَّاهم بـ”الدهاقنة الصِغار” بقوله
على ماذا يتقاتل الدهاقنة الصغار؟
حيتان المحتل
لم تترك
من سمكة الوطن
غير الزعانف
ومن الحقل
غير التبن !!(44)
وفي سؤالٍ تعجبي انكاري حِجاجي ساخر يقول الشاعر: (على ماذا يتقاتل الدهاقنة الصغار؟!)،يرفض الشاعر التقاتل بين العُملاء مِن الدهاقين / علامة سيميائية من أصل فارسي تعني التاجر، وتحمل عدّة معانٍ أخرى، والمعنى الذي قصده الشاعرُ هو تجّارُ الحروب والفساد (تجّار الفساد من السياسيين الذين جاؤوا مع المحتل) على ما تبقى من الاحتلال من زعانف سمك وتبن في اسلوب بالغ السخرية، لأن هذه المواد تُطعم بها الحيوانات السائبة كالقطط والكلاب او الحمير والبغال، بعد أن سرقَ المحتلُ قوتَ وثرواتِ الشعب، مستعيرا لذلك لفظة سيميائية لمثل شعبي متداول “ذيل” متعجبا في الوقت نفسه من تهافت هؤلاء على ثروات البلاد، وسرقتها من دون أن يضعوا لمسخرتهم، وعمالتهم وخزيهم، وعارهم حدّا
ويحتجُّ الشَّاعرُ بجرأة المقاوم شاهِراً صوته بوجه الرئيس المُحتل لمصير ضحاياه، حينما وضع نصبا للجندي المجهول لضحاياه،مطالبا ايّاه أن يضع بَدَله نصبا لكلّ الشَعب المجهول المُغيّب عن ساحة الكرامة والحرية، فخلق من عنصر المفارقة والاحتجاج صدمة مفاجئة للمتلقي في نهاية المقطوعة الموسيقية بإيقاعها المتناسق والمنسجم القافية في كل تفعيلة (مجهول)بقوله
هذا ليس إنصافا سيادة الرئيس
لقد أمرت بإقامة
نصب للجندي المجهول
أطالب فخامتكم
بإقامة نصب تذكاري
للشعب المجهول (45)
وقد يحتجُّ الشاعر على عدم العدالة والإنصاف، كما يحتجُّ على زيف الديمقراطية والمظاهر المزيفة التي جاء بها المُحتل؛ ويرفض الشاعر هذه المعاملة البشعة، لوطنه من قبل المُحتل مستغربا ومتسائلاً عن سبب اصرار المحتل على احراق وطنه بهذه الطريقة البشعة، وهو لم يكن هندوسيا ليحرق؟! في اشارة الى حرق الهندوس لمواتهم أي بأن الوطن لم يمت ليُحرق كما يُحرق الهندوس بعد موته، فلماذا تحرقونه قبل موته وهو لم يمت بعد
لقد شكّلت مفردة ” الحرق ” علامة سيميائية اشارية واضحة لحرق الاشياء والطبيعة، وغير ذلك بصورة عامة، ولحرق الهندوس لدواعي دينية، وحرق الاوطان بدوافع غيرية قصدية انتقامية عقابية بصورة خاصة، فعلاقةُ الحرق هنا تختلف ما بين الحرق الطبيعي غير المتعمد، والحرق غير الطبيعي المتعمد كردّة فعل لفعل اجرامي او عقابي، ولذلك تساءل الشاعر لماذا يُحرق الوطن، فهو ليس هندوسيا او مجرما لتصروا على احراقه؟! بصورة خاصة بقوله
وطني ليس هندوسيا
ولم يمت بعد
فلماذا يصرّون
على احراقه حيًا؟ (46)
فهو يرفضُ سياسةَ حرق الأرض التي تعمَّدها المُحتل، ويستأنف هذا الرفض بأسلوب استفهامي تهكمي انكاري ساخر، بأن تكون الحكومة الجديدة حكومة صيرفة منقادة في قراراتها إلى صيارفة واشنطن، واصفا اياها بمواسير صرف صحي في اسلوب سيميائي تهكمي جارح وساخر، وهو اقوى واقذع واكثرا ايلاما للخصم، بقوله
أ حكومة تصريف إعمال؟
أم مواسير صرف صحي
تلك التي ارتهنت غدَنا
لدى صيارفة واشنطن؟ (47)
لقد وظّف الشاعرُ بعضَ المُصطلحات العلمية والسياسية المتداولة (حكومة، تصريف، مواسير، صرف صحي، صيارفة)، لغاية السخرية والايقاع في الخصم والتنكيل به وافحامه في زاوية حرجة جدا،بعد أن القى عليه الحجج الدامغة (ارتهنت غدها لدى صيارفة واشنطن)،فهو حِجاج منطقي استدلالي،ومن أجمل ما عبّر فيه الشاعر عن سخطه وغضبه واستغرابه، وعدم رِضاه لِما يجري في الوطن الذي طالمَا ارّقه حبُّه بقوله:
أهذا وطن؟
ام سوق نخاسة؟ (48)
على ما يبدو إنَّ الشاعر صُدِم بما يجري في وطنه من عجائب وغرائب، مكائد ومصائب ومصائد للمغفلين من السياسيين الفاسدين الذين جاؤوا مع المحتل، فشبَهه بسوق نخاسة لكثرة المتآمرين والمحتلين، لذلك أكثرَ مِن الاستفهام التعجبي الانكاري، الذي يُعد اسلوبا ووسيلةً حِجاجية ساخرة، في اشارة الى بيع القِيم الانسانية والعرفية والعقائدية، بسبب تأجيج التحريض الطائفي والمذهبي والقومي مِن قبل المُحتل والتي جعلت ارواحَ البشر تُباع وتُشترى ويُتاجر بها مِن قبل الارهابيين والفاسدين المرتبطين بالمحتل
7 – رفض الفساد الأخلاقي والإداري والمالي
ومن أقوى ما صرّح برفضه الشاعر مِمَا تحدث عنه بعد زوال النظام العسكري ومجيء المعتصمين بحبل الأجنبي -كما يقول الشاعر- وهو تضمين لقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (ال عمران / 113) والشاعر كان يُكثِر من قراءة ومراجعة القرآن الكريم حتى وهو جالس في الطيارة اثناء السفر للتزود من زاده وثرائه اللغوي والفكري فضلا عن حفظه واطلاعه على الشعر العربي،حتى أثناء سفره وفراغه
ولذلك لمسنا –في شعره- كثرةَ التضمينات القرآنية والتراثية والشعبية، كالحِكم والأمثال والقصص والروايات وبعض المصطلحات العلمية والأدبية والفنية في شعره،وربّما هي نوع من المحاكاة والتأرخة، لترسيخ واثبات العقيدة والتراث والقيم، أو إظهار المقدرة وسعة الثقافة والاطلاع والاستدلال لا سيما اننا نعلم ان الشاعر لديه توجهات سياسية وفكرية وثقافية وادبية واضحة ومميزة. ويصف الشاعرُ التعاونَ القبيحَ والمذموم لبعضِ هؤلاء الذين باعوا الوطن، بقوله
“متعاونون على المَن والسلوى “
عاقدون العزم على عقد الصفقات السرّية
فهنا بقدر ما يرفض الشاعر هذه المساومات اللا أخلاقية أو اللاوطنية، يستغرب منها في الوقت نفسه بوصفها أعمالا مُشينة،ومرفوضة مِن قِبله ومِن قبل مجتمعه ..مستعيرا تضمينا قرانيا اخر وهو ” المن والسلوى” في قوله تعالى: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمناهم وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ . البقرة / 57)
وفي لفظة (المَن) اشارة وعلامة سيميائية تبتعد عن معناها القاموسي الذي يعني نوعا من انواع الحلوى كالصمغ وطعمه اشبه بالعسل، او السوائل التي تمزج بالماء طعمها حلو وتنفع للتداوي. و(السلوى) نوع من انواع الطيور الطيبة المذاق صغيرة الحجم، فخُصِص المَن بالشراب والسلوى بالطعام أي الطعام والشراب
فقد اراد الشاعرُ أن يوحي بعلامة سيميائية حجاجية على أن هؤلاء المرتزقة من الحكام والسياسيين، متعاونون على المَن والسلوى أي الفساد والحرام والسرقة والسلب، ونهب ثروات البلاد والعباد . ولكن هناك اشارة ودلالة أعمق من ذلك، وهي مقصد الشاعر، وبيت قصيده، وهي أنَّ هؤلاء المرتزقة من الحكام والسياسيين اشبه ببني اسرائيل، لأن المَن والسلوى أنزل على بني اسرائيل وهو المعنى العميق في تضمنيه القرآني هذا . فهو يحتج عليهم بانهم يتعاونون على السرقات والموبقات كبني اسرائيل
رفض اليأس والقنوط
تعددت اساليبُ رفضِ المُرسل، ومنها رفضُ الاستسلام للأنظمة الصارمة التي تحكم بقبضة حديدية، كذلك يرفضُ القنوط والاسترخاء، وحياة الدِّعة مِن خلال استخدامه التضاد في المقابلات، واسلوب التضمين بقوله
شوكُ التفاؤل أجدى لروحي
مِن حريرِ القنوط
لا اكتفي بالنظرِ
إلى النصفِ المَملوء مِن الكأس
وحين يكونُ فارِغا
أملؤه برحيقِ الأماني
وندى الأمل
وشهدِ الأخيلة (49)
فالشاعر/ المرسل، بتفاؤله المعهود وارادته الحرة القوية وصبره المتين، يرفض السكوت والقنوط والاستسلام وحياة الدعة في المنفى التي عبر عنها بـ ” حرير القنوط” فهو لا يكتفي بالنصف المملوء من الكأ س، كونه تواصلا منقوصا ومشينا بالنسبة له، في خطابه السيميائي الحِجاجي هذا، إذ قصد معناه التداولي، بِما ناله مِن الوطن معبّرا عن ذلك في جملة المقابلة باستعارة جميلة هي “شوك التفاؤل/ علامة سيميائية ووحدة دلالية تحمل معنيين الاول: نبات بري قاسي مدبب /ابري مزعج ومؤلم حينما يعترض الانسان يتسبب له بالأذى، والثاني: المنغصات والالام والاثار التي يتعرض لها الانسان جراء تعرضه لإبر الشوك بالاقتراب منه سهوا او عمدا
والمعنى العميق لهذه الاشارة السيميائية الحجاجية، هو أنَّ التفاؤلَ -وإن كان صعبا ومتعِبا ومنغِصا ومؤذِّيا ومُهلِكا- افضلُ من اللاتفاؤل والقنوط والركون على جنب، وقتل الآمال ووَأْدِ الامنيات والاكتفاء بما ناله من قدر او ظلم، فـ (شوك التفاؤل) علامة استعارية تداولية،تحمل تضاداً ثنائيا ما بين التفاؤل والمنغصات، وهي أمل وعدم قناعة بالقليل من قبل الشاعر في الوقت نفسه، كون شوك التفاؤل عنده، أفضل من حياة الدِّعة التي استعار لها المرسل بـ “حرير القنوط ” وهي علامة سيميائية ايضا حملت معنيين: الاول: دلالى رمزية، فالحرير: نوع من انواع النسيج الفاخرة والغالية، والتي يُحتَكر لبسُها على الخلفاء او الملوك والقادة ولذلك ارتبطت رمزيتها من لبس الخلفاء والملوك والقادة لها فصارت علامة سياسية رسمية طبقية فارقة مقتصرة عليهم ومميزة لهم طبقيا واداريا. والمعنى الثاني: دلالة سيميائية عميقة وهي مقصد الشاعر، اذ انَّها ترمز لحياة الدعة والخناثة والكسل/ وضياع الوقت والجهد
وبهذا قَلبَ الشاعرُ المعنى القاموسي للحرير مِن كونه قماشاً فاخراً الى كونه رمزا للحكم والملوكية وكونه رمزا للكسل والدِّعة والترف والخناثة والميوعة وبهذا صدم وفاجَأ المتلقي بمفارقته هذه، فالشاعر/ المرسل كانَ حذِرا وحاذِقا في اختيار الفاظه، وتوظيفها في بناءِ خطابه (تركيبيا ودلاليا) ضمن آليات اشتغاله المتعددة، والتي منها، الحِجاج السيميائي الساخر واسلوب المفارقة والفجأة والاستفهام الانكاري التعجبي الحجاجي فضلا عن اسلوب التضمين والثنائيات الضدية واسلوب السخرية لذلك رفض الشاعرُ/المرِسل الجشعَ والطمعَ والخنوعَ والأذلال، فلا حياة بلا كرامة وأمل وحرية عنده .وهو يدعو المتلقين ابناء الشعب الى المقاومة السلمية أو الكلامية / كقنوات اتصال أو تواصل وفعل انجازي،على أقل تقدير كما في قوله: (أملؤه برحيقِ الأماني وندى الأمل وشهدِ الأخيلة ). فهو يدعو الى التفاؤل والامل والمحاكاة الاخيلية علها تملأ النصف الفارغ من الكأس أي العمر او مسيرة الحياة، وان لم يتحقق فيه مبدأ التعاون الذي اشترطه “غرايس”، فهو أفضل من الصمت المُخجِل والمُخيّب والمُحبط للآمال
وفي دعوة أخرى / للمتلقي يرفض الشاعرُ/ المرسل،اليأس والقنوط ويدعو الى التواصل والتلاحم الجماهيري، الذي يؤدي الى الاتحاد والقوة والمقاومة،فالجماهيرُ تحتاجُ الى مُحرك او منظّم او قوّة دافعة وداعمة، ومحفزة للثوران والغليان والمقاومة والتحدي والانقلاب -بحسب غوستاف لوبون – فيقول الشاعر
إن لم تستطع
سقي البذرة بعَرَق الجبين
فبماء دعاء
تعضد به أيدي الغارسين
لا يوجد طريق وعر(50)
وظّف الشاعر أسلوب الشرط في هذا الخطاب الميتافيزيقي / الوجودي المحاكاتي الواصف،و الذي أراد به أن يوصل رسالة لمَن لا يملك روح وجرأة المقاوم او العمل بشرف وعفة او الدخول في معركة التحرر والاستقلال او ثورة الرفض التي يدعو لها الشاعر بأن على كلِّ انسان إن لم يستطع دعم بداية أيِّ مشروع حركي سياسي او ديني او فكري هادف وتعبوي طلائعي، فعليه أن يعضده، ويدعمه بالدعاء على أقل تقدير، وهو أضعف الايمان، بعد أن شعر الشاعر بضعف التواصل مع المتلقي فالمرسل تنازل عن الاشراطات أوالاكراهات التي يراها المتلقي صعبة فأنزلها مِن عليائها الى جداول وسفح المتلقي؛ ليتحدا في مصير واحد ويشكّلا نبعاً صافياً ينهلُ منه جميعُ ابناء الوطن بحرية وسلام وامان ووئام، لاستحالة تحقق شروط التواصل او مبدأ التعاون في ظل الظروف والسياقات التي انبنى عليها الخطاب. وفي أجمل استعاراته المقاومة في قصيدته التي كتبها، احتفاء بجديد صديقه الشاعر شوقي مسلماني يقول
يا واضح الغموض ويا غامض الوضوح
دخان تنورك كفيل بطرد البعوض
ثمة بين الشعر والنضال حبل سري
كلاهما يحدق في تخوم الغد
وكلاهما جسر ذهبي
يربط بين شجر الأحلام وطين اليقظة .(51)
وفي هذا المقطع توشحت مقدمتُه بجملة نداء المقابلة، التي لعب الطباقُ فيها دورا كبيرا في ثنائياته الضدّية، وفي رسم معالم وشخصية صديقه مسلماني / المتلقي، وهو يرفض اليأس والقنوط (واضح الغموض وغامض الوضوح) واستعارة المرسل للأثر الذي يتركه شِعره/ رسالة على العدو بلفظ (تنّورك/ قناة ) فلفظة تنور/ دال هي قناة لحرق البعوض، وفي الوقت نفسه هي علامة للحرق / مدلول / القاموسي / معجمي، وعلامة للغيض / مدلول للمعنى العميق والتداولي، لعلاقة المشابهه بين وظيفة التنور كقناة، واداة لحرق البعوض، ووسيلة واداة مسلماني التي يوظفها في التأثير على الاعداء، وحرق قلوبهم واثارة غيظهم، وهو المعنى الهرمنيوطيقي الذي قصده الشاعر.
والدخان / السلاح الذي يستخدمه مسلماني، كفيل بطرد البعوض/ العدو واصفا إيّاه بالبعوض/ في اشارة الى حالة الضعف، والوهن التي يمرُّ بها العدو، وهو اصغر مخلوقات الله وقد ذكرت في قوله تعالى: ﴿ إن اللهَ لَا يَسْتَحي أن يَضَربَ مَثلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوقَهَا فأما الَّذيَنَ امَنُوا فَيَعْلمُونَ اَنَّهُ اْلَحق مِنْ رَبّهِم وأما الَّذيَن كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أراد اللهُ بِهذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهدِى بِه كَثيراً وَمَا يُضِلُّ ِبِه إلا الفَاسِقيَن﴾.(سورة البقرة 26). فالبعوض شكّل علامة سيميائية حجاجية ايضا اذ أن الدال/ البعوض والمدلول القاموسي / من فصيلة الحشرات ذات الجناحين . الا إنَّ المعنى العميق والهرمنيوطيقي الذي قصده الشاعر هو ان البعوض يتغذى على دم الانسان والحيوان وبهذه الطريقة تنشر مرض الملاريا .فتكون أكثر ضررا وفتكا وقذارة على الرغم من صغر حجمها . ولكن الشاعر اسبغ على شخصية مسلماني صفة الذكاء والاحتيال من خلال توظيف “الدخان” / العمل السياسي والثقافي والادبي، وهو السلاح الفتاك لمقاومتها واضعافها او قتلها. وبهذا يريد المرسل أن يوصل رسالة الى متلقيه بأنَّ حكام السياسة اشبه بالبعوض الذي يعتاش على دماء الانسان والحيوان، ونشر عدوى الامراض الاجتماعية والفساد بينهم، ولكن هناك من كان لهم بالمرصاد وهو مسلماني.
وعلى الرغم مِن أن هناك رأيا آخر لشاعرنا الكبير المتنبي في البعوض، الذي يرى قد يُدمي مقلةَ الأسد في اشارة الى عدم الاستهانة بالأخرين مهما صغر حجمهم او مقامهم . وكلا الشاعرين قد وظَّف مفردة ” البعوض” في سياقه التركيبي والدلالي، ولكن بشكل مغاير بما يخدم مقصديته وسياقات خطابه واليات اشتغاله، اذ إن المتنبي كان ينظر الى البعوض من منظور ايجابي / القوّة، بينما يراه شاعرنا السَّماوي من منظور سلبي / الضُعف والغدر وسوء الخلق، والعيش على حساب الاخرين ومصّ دمائهم ونقل الامراض والعيش على الجيف والبرك الاسنة وغير ذلك.
ويرفض الشاعرُ أن يكون في وطنٍ هو بأمسِ الحاجة اليه، لكنّه مشرّد وغريب يخاطب فيه الشاعرُ صديقا اخراً له في قصيدة “انصبْ خيمتك داخل جرحك !!” في اشارة الى العدمية التي يشعر بها الشاعرُ تجاه العودة الى الوطن، والذي أصبح حُلما صعب التحقق في زمن توريث الحكم، ويأس صديقه من نصب خيمة له خارج وطنه الأم، وهو الأديب د. حسن ناظم وهو يحمل خيمته / وطن أحلامه وطفولته واهله الحلم الذي لم يتحقق، وإن حَملَه على ظهره عقوداً من الزمن،متنقلا بين وطن واخر بحثا عن حديقة تليق بورود قلبه، يدعوه لأن يقيم خيمته داخل جرحه أفضل من الغربة، والمنافي في هذه القصيدة التي اسميتها بـ” القصيدة الكافيّة”، لكثرة تكرار كاف التشبيه والخطاب فيها، يقول:
فانصب خيمتك داخل جرحك
ما حاجتك لوطن
إذا كنت مملكة للمحبّة
وجبينك عاصمة للنقاء؟ (52)
فقد شكّلت مفردةُ ” الخيمة / كدال” علامة سيميائية تواصلية فارِقة في هذا المقطع، فالمدلول / المعجمي: نسيج من القماش على شكل غطاء، يحتمي به البدو الرُّحَل من الظروف المناخية القاسية .أمَّا المدلول / التداولي / فهو كلُّ شيء يحتوي الانسان ويضمه ويحميه ويقيه ويستتر به من الظروف والأحداث، وغيرها فيطلق على الوطن وعلى الأب او الزّوج …ولعلاقة المشابهة الوظيفية ما بين الخيمة في معناها المعجمي، والخيمة في معناها التداولي، اشتقَّ المُرِسل معنى تأويليا آخراً، هو الوطن الذي قصده في حمله على ظهره وهو يجوب البلدان والمدن الاوربية فقصد المعنى الحركي للخيمة المتنقلة التي لا تستقر في مكان ما وستظل هكذا
9- رفض الانهمام الحسّي بالمرأة
وتتعدد أنواع الرفض وأساليبه لدى الشاعر السَّماوي، ومن بين هذه الأساليب ايضا أسلوب رفض الاستسلام للحبيبة، والإصرار على دخول جنتها وهي مقاومة من نوع آخر تعكس إصرار الشاعر على اقتحام أسوار الحبيبة المنيعة، مقاومة عاطفية لاتخلو من دغدغة مشاعر، ومداعبة عواطف مكبوتة وهواجس مخفية، وترويح نفسي لاستراحة مقاتل، ومحطة من محطات الاسترخاء العاطفي لأيِّ شاعرٍ مقاوم أو رافض أو متمرد
وقد تناولت الناقدةُ الدكتورة “فاطمة القرني ” في كتابها ” الشعر العراقي في المنفى:السَّماوي ..نموذجا ” موضوعةَ المرأة في شعر السَّماوي يحيى، اذ حاولت فيه تطهير السَّماوي من الاندفاعية لعشيقته الحقيقية (التجارب الفعلية )من ناحية ومحاولةً تبرئته مِن تُهمة الانهمام الحسّي بالمرأة،على الرّغم مِن أننا لا نبرئ ساحته كشاعر مُرهف الحِس والمشاعر، والاحاسيس الجياشة والمكثفة،التي لولاها ما كان الشاعرُ شاعرا،ولا انسانا بمعنى الكلمة، كيف لا وهو ابنُ الفِطرةِ التي ترعرعت في بساتين الشرقي على ضفاف الفرات؟!، نجد إنَّ المرأة تشكّل العمودَ الفقري في شعر كلِّ شاعر، ولكن هذا لا ينفي إنَّ الشاعر كثيراً ما يتمرد عليها، حينما تتقطع به السبل او الاسباب، فيقول
كلانا لا يتعبُ مِن إصرارِه
أنا على دخولِ جنَّاتِك
وأنتِ على مغادرةِ جحيمي
أ كلُّ هذا التّشابه وتقولين
نحن مختلفان؟(53)
يفصحُ الشاعرُ في خطابه هذا، وفي مقابلاته الحِجاجية التقريرية الثنائية الضدّية (دخول / مغادرة) (جنات / جحيم)، عن وجود سيميائية التضاد / صراع الأنا والآخر ما بينه وبين حبيبته، متعجبا في سؤاله الانكاري الحجاجي، من اهمالها او تغاضيها عن التشابه والتماثل الكبير بينهما في اشارة الى التعالق بينهما. هو سؤال الوجود/ المرِسل للعدم المُقصى من قبل الآخر / المتلقي
وكما ترفض اشجارُ الشاعر وتضربُ عن الحفيف الرشيق حتى يعودَ هديلُ الحمام اليها في اشارة الى الرفض والامتناع العاطفي، الذي يعيشه الشاعرُ في الفراق او السفر او البعد عن الحبيبة، فهو يعلنُ الصومَ والامتناعَ عن أيِّ حبٍّ آخر مالم يعد حبها اليه، لينهض من سباته وسيظل يقاوم العطش العاطفي الى ان يلتقي بالحبيبة، ويرفض كذلك أن يملأَ بالشهد قواريره في إشارة إلى عدم خرق المواثيق الزوجية او العاطفية،وهو خارج أسوار البلاد
فهو رفض عاطفي تجسيمي للأشجار التي (اعلنت الاضراب) لكي لا يستسلم لمفاتن الأخريات الفاتنات في الغرب، واللواتي لا يسلمُ أحدٌ من سهامهن الا ما رحم ربي، وهو بعيد عمّن يحبّ، مكتفيا بالذكريات التي يحملها عن الحبيبة المقدّسة، رافضا ان يملأ قواريره / مشاعره المرهفة الحس مِن غيرها حتى نحلة شفتيه ترفض أن تمتصَ رحيق ازهار خارجة عن حديقة شفتيها
أشجاري أعلنت الإضراب عن الحفيف
حتى يعود هديلُك
كيف أملأ بالشهد قواريري
ونحلة ثغري
خارج أسوار حديقة شفتيك؟(54)
***
د. واثق الحسناوي – جامعة المثنى