أديب كريّم
هل أنا في وطنٍ أم في جحيم؟ تغادرُ منزلَكَ وبلدَتَكَ صباحًا، ولولا إرادة الضرورةِ لفضّلتَ المكوثَ في مكانِكَ للأبدِ على أن تجازفَ بأمانِكَ واستقرارِكَ وتخرج. تجلسُ خلف مقودِ سيّارتِكَ، تُشعلُ سيجارتَكَ، تأخذُ نفَسًا عميقًا، وتوطّنُ نفسَكَ على أن تحافظَ على توازنِكَ مهما صادفتَ في طريقِكَ. ثمّ تنطلق. في البدايةِ، تسيرُ ببطءٍ، وتتلوّى في سيرِكَ كالأفعى، محاولًا، قدرَ المستطاعِ، تجاوز المطبّاتِ والتصدّعاتِ والحُفَرِ برويّةٍ، وبأعصابٍ هادئةٍ، كيما تؤذي سيّارتَكَ المسكينةَ وتعكّر مزاجَكَ. ورويدًا رويدًا، تجدُ أنّ الوقتَ بدأ يدهمُكَ ووعورةَ الطريقِ تزدادُ وتتفاقمُ، وقدمَك تتخدّرُ من كثرةِ الدوسِ على المكابحِ، وضغطَكَ آخذٌ في التحرّكِ، صعودًا وهبوطًا. ثمّ يزدادُ الطينُ بَلّةً مع توالي المنغّصاتِ، المتمثّلةِ، غالبًا، بسائقٍ متهوّرٍ، أو سائقةٍ مرتبكةٍ، أو شاحنةٍ متعجرفةٍ تسيرُ وسطَ الطريقِ غيرَ آبهةٍ بما يختلجُ في نفسِكَ، أو بورشةِ حَفرٍ وتجريفٍ بحجّةِ إصلاحِ البنيةِ التحتيّةِ، فينتابُكَ حينها إحساسٌ بالغبنِ موجعٌ لعلمِكَ بأنّ الغايةَ من هذا الفعلِ المتكرّرِ هي نهبُ ما تبقّى من فتاتٍ داخل مغارةِ علي بابا، فتاتٍ لا تنالُ أنت منه سوى نفثاتٍ من الغبارِ وحُفَرٍ، حادّةٍ وعميقةٍ، تمزّقُ مفاصلَ سيّارتِكَ وتحرقُ أعصابَكَ ..إلخ. ولأنّكَ إنسانٌ فقدتَ طاقتَكَ على التحمّلِ، بسببِ التدهورِ المزمنِ، والتخلّفِ المستشري، والفسادِ المستحكمِ، يبدأُ مزاجُكَ يضطربُ وجهازُكَ العصبيّ يتوتّرُ. فتتخلّى، شيئًا فشيئًا، عن هدوئِكَ وانضباطِكَ، وتَشرعُ في تخطّي المطبّاتِ والشقوقِ والنتوءاتِ بسرعةٍ عاليةٍ غير مكترثٍ لصرخاتِ الاستغاثةِ التي تُطلقُها سيّارتُكَ بين الحينِ والحينِ. ثمّ تلوذُ بسيجارتِكَ، فتشعلُ الواحدةَ تلو الأخرى، وتُطلقُ تنهّداتٍ متسارعةً وساخنة. ومع بلوغِ الذروةِ في انفعالِكَ وغيظِكَ، تلجأ إلى عزائِكَ الوحيدِ؛ المجاهرة بالسّبابِ والشّتمِ للطبقةِ السياسيّةِ، بكلّ أطيافِها ورموزِها. وعلاوةً على ما تقدّم، وفي ركنٍ خفيٍّ في داخلِكَ، يظلُّ شعورٌ بالخوفِ يلازمُكَ، طوال رحلتِكَ، من حدوثِ خطبٍ ما مباغتٍ، يتخلّلهُ إطلاقُ نارٍ عشوائيّ، فتغدو، وبطرفةِ جَفنٍ، أحد ضحاياه، أو من أن تتعرّضَ سيّارتُكَ أو محفظتُكَ للسرقةِ، أو من تعرّضِكَ للخطفِ، لسببٍ أو لآخر، على يدِ مافياتِ الابتزازِ والاستغلال ..إلخ. وأنت غارقٌ في هذه الدوّامةِ من الفوضى والعبثِ، ومن الغضبِ والتململِ والقرفِ، يتدفّقُ من رأسِكَ سيلٌ عارمٌ من الأسئلةِ المحيّرةِ والمقلقةِ: أين كرامتي؟ أين إنسانيّتي؟ أين حقوقي كآدميّ؟ هل أنا في حُلمٍ أم في يقظةٍ؟ هل أنا في حظيرةٍ بهيميّةٍ أم في وطنٍ آدميٍّ؟ ما الذي جعل هذا الشّعبَ يتنازلُ عن أبسطِ حقوقِهِ، ويرتضي حياةَ المذلّةِ والمهانةِ رغم ما يقاسي من مشقّةٍ وعناء؟ أيُّ نوعٍ من الخرافاتِ والأساطيرِ الدينيّةِ، وغيرِ الدينيّةِ، التي حدَت به إلى تدميرِ ذاتِهِ ومحْقِ أحلامِهِ وآمالهِ الجميلة؟ أيّ صنفٍ خبيثٍ من المخدّرِ قد تجرّعَ حتى غدا يعبدُ زعيمَهَ، ويتلذّذُ بالأوهامِ، وينفضُ يدَهُ من مسؤولياتِهِ تجاه وطنِهِ ونفسِهِ وأولادِهِ؟ أين ذهبتْ تضحياتُنا الجسامُ، وكيف تنازلنا بسهولةٍ غريبةٍ عن أوجاعِنا وآلامِنا التي ألمّتْ بنا زمنَ الشّدائدِ والضوائقِ؟ كم سرقوا من جيوبنا بذريعةِ الإصلاح وإعادةِ البناء؟ وكَم أهدرنا من سنواتٍ، وكَم بعثرنا من فرصٍ، وكَم فقدنا من أرواحٍ على هذه الطّرقاتِ والشّوارعِ والأزقّةِ، الخرِبَةِ والفاسدةِ؟ وكم أنفقنا من أموالٍ طائلةٍ على معالجةِ الأعطابِ المتكرّرةِ في وسائلِ تنقّلنا عِوَضَ أن تُصرفَ في المجالاتِ الحيويّةِ الحضاريّة؟ وتمضي الساعاتُ في تطوافِكَ، والغضبُ يستبدُّ بكَ، من ناصيتِكَ حتى أطرافِ قدميك، والأسئلة لا تنتهي ولا ترحمُ. والحنينُ يشدّكَ بقوّةٍ للعودةِ إلى عزلتِكَ، تجنّبًا للمزيدِ من الشقاءِ والاضطرابِ. وخلال إيابِك، تواجهُكَ المتاعبُ والمزالقُ نفسُها إلى الحدّ الذي تشعرُ معه بأنّ حياتَكَ باتت فارغةً من أيّ وزنٍ أو قيمةٍ أو محتوى معنويّ. تصلُ البيتَ مضعضعَ الأركانِ، مكسورَ الوجدانِ، مكسوفَ الخاطر. ثمّ تجدُ الكهرباءَ مقطوعةً، ومنزلَكَ كئيبًا. تنكمشُ على خيبتِكَ، وتنطوي على جرحِكَ، وتفتحُ كتابَكَ مجدّدًا، بحثًا عن إجابةٍ، شافيةٍ مواسيةٍ، لسؤالٍ واحد: لماذا تقدّمَ الآخرون وتخلّفنا نحن ..؟
غرفة 19
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”