حمد فرحات/ مؤسّسة الفكر العربي
مثل غيره من الشعراء الكبار، عربيّاً وعالَميّاً، كان الشاعر اللّبنانيّ سعيد عقل نرجسيّاً، لكنّ نرجسيّته مُقارَنةً بنرجسيّة نظرائه، كانت فاقعة للغاية وحتّى مُستهجَنة للغاية؛ فهو مثلاً لا يُقارِن نفسه، ولا يقبل، حتّى أن يُقارنه الآخرون، بـ “التوب تن” من شعراء الإنسانيّة بحسب تعبيره، وهُم من وجهة نظره: هوميروس، طاليس، شكسبير، غوته، المتنبّي، أبو تمّام، سعدي الشيرازي، عُمر الخيّام، هولدرلن وفاليري. فهو يعتبر أنّه، وعلى الرّغم من اختلاف الأزمنة والقيَم والعوالِم الشعريّة بينه وبين هذه الرموز الشعريّة الكبرى، فإنّ تجربته تفوق تجاربهم جميعاً، فكيف بتجارب غيرهم من الشعراء الذين يعيشون بين ظهرانينا
فسعيد عقل مثلاً، لا يعترف بشعراء الحداثة العربيّة وروّادها من أمثال: بدر شاكر السيّاب ونزار قبّاني وأدونيس وخليل حاوي وأنسي الحاج ومحمّد الماغوط وسعدي يوسف ومحمود درويش وعزّ الدين المناصرة وتوفيق صايغ وعبد الوهّاب البيّاتي وبلند الحيدري وغيرهم.. وغيرهم. ويعتبرهم “مجرّد حواة كلام لا طائل منه، ونصوصهم لا تنتمي إلى جوهر الشعر البتّة”. ولمّا سألته (أنا الذي كنتُ أزوره دوريّاً، مرّة كلّ شهر، كون منزله في شارع بدارو في بيروت يبعد عن منزلي قرابة 10 دقائق بالكثير سَيراً على الأقدام): ولماذا أعطيت، إذاً، جائزتك الأدبيّة للشاعر محمّد الماغوط؟ أجابني على الفور: “لأنّه ناثر جيّد فقط، وفي نثره حيويّة جاذِبة وبالغة الخصوصيّة.. ومن الخطأ، استطراداً، تسميته شاعراً”
ما هو متّفق مع الطبيعة، لأنَّ المرء يسأم كلّ شيء، حتّى اللّذة
وبالعودة إلى شعراء “التوب تن في العالَم” على حدّ تعبيره، سألته كيف تعتبر طاليس اليوناني شاعراً، وشاعراً استثنائيّاً، وهو فيلسوف وفيزيائي وعالِم فلك ورياضي، ينفر من الخيال والأساطير والخرافات؟ وقبل أن أنهي سؤالي، بادرني شاعرنا الكبير مُجيباً على الفور: طاليس أوّلاً، ليس إغريقيّاً، كما يزعم المؤرّخون الأوروبيّون. إنّه لبناني فينيقي، وقد جاء من فينيقيا إلى ميليا لاجئاً برفقة آخر اسمه نيليا، وتجنَّس بجنسيّتها، حتّى عُرف في ما بعد بطاليس الميلاوي. طاليس، بالإضافة إلى إلمامه بالفلسفة وعلوم الفيزياء والفلك والرياضيّات، هو أيضاً شاعر وشاعر كبير. وأَردفَ يقول: سألني مرّة أحد الصحافيين عن أروع قصيدة قرأتها في حياتي، فأجبته على الفور: تلك القصيدة/التحفة المأثورة عن طاليس، والتي يقول فيها الشاعر مُتسائلاً ومُجيباً في الوقت عينه
ما أقدم ما يُعبد؟
الله، لأن لا بداية له
والأجمل؟
العالَم، لأنّه عمل الله
والأكبر
الفضاء، لأنّه يحوي كلّ شيء
والأسرع؟
الفكر، لأنّه يندفع أينما كان
والأقوى؟
الضرورة، لأنّ لأحكامها، يخضع كلّ شيء
والأروع حكمة؟
الجمال، لأنّه يكتشف كلّ شيء
والأعمّ بين الناس؟
الأمل، لأنّه يبقى حتّى للّذين لم يبقَ لهم شيء
والأجدى؟
الفضيلة، لأنّها تمكِّنك من استخدام كلّ شيء
والأضرّ؟
الرذيلة، لأنّها تفسد كلّ شيء
والأسهل؟
ما هو متّفق مع الطبيعة، لأنَّ المرء يسأم كلّ شيء، حتّى اللّذة
بين الشعر والعِلم
إلى جانب الشعر، قراءةً وكتابةً، نقداً وتنظيراً، كان سعيد عقل مأخوذاً بالفيزيائيّين وعُلماء الفلك، ويعتبرهم شعراء في الصميم، وإنْ بأدواتٍ مُختلفة ولغة مُختلفة، وكان يهاب أطروحاتهم، ويصغي إليها بكلّ اهتمام وجاذبيّة مسدّدة. كان لديه باختصار، عقدتهم العِلميّة المتفوّقة والمُتجاوزة، بحسب لقاءاتي المتكرّرة به، ومناقشاتي له في أمور كثيرة، من بينها موضوعة تداخُل العِلم بالشعر.. والعكس (وخصوصاً عند الشاعر الفرنسي الكبير سان جون بيرس – نوبل للآداب 1960)، الذي لم يكُن سعيد عقل في المناسبة يستسيغ شعره، وكنتُ على الضدّ منه في ذلك بشكلٍ مُبرم. أتذكّر مرّة أنّه علّق على تصريح لكبير أساتذة الفيزياء في جامعة برمنغهام البريطانيّة، البروفسور “فان دوكسبرج”، ومفاده أنّ الشمس ستنفجر بعد خمسة مليارات من السنين، وذلك بسبب نفاد عوامل الطاقة المخزّنة فيها والدّافِعة لتوهّجها، وستطيح بالأرض وبنظامنا الشمسي كلّه.. علّق سعيد عقل قائلاً، وبما يشبه طمأنة العالِم البريطاني نفسه، ومعه سكّان المعمورة قاطبة، إنّه بعد خمسة مليارات سنة، يكون الجنس البشري قد سيطر، حتّى على مصير الشمس، وهو بالتالي يقرّر لها ما إذا كانت ستبقى مرشّحة للانفجار أو ستسلم منه
ويرى شاعرنا الكبير أنّ عِلم توقّعات المستقبل، وهو عِلم فتيّ باتت ثلاثة أرباع نواميسه معروفة، يفيد أنّنا كبشر، سنحتلّ كلّ كواكب المنظومة الشمسيّة، وسنستعمرها كلّها، وأنّنا عام 2080، سنبلغ ما يقارب سرعة الضوء، وعام 2100 سنلتقي بكائنات من خارج الأرض، وفي حوالي السنة نفسها، سنضمن بقاء الإنسان حيّاً أطول مدّة مُمكنة
وإذا كان هذا العِلم يَعدنا بذلك في أمدٍ لا يزيد على 130 سنة، فما الذي، يا ترى، يَعدنا به هذا العِلم (يتساءل سعيد عقل) في أمدٍ يصل الى 1000 أو مليون أو مليار سنة، بل إلى خمسة مليارات من السنين؟!
بلى، نكون حتماً قد أصبحنا نكيّف، لا النظام الشمسي فحسب، بل أنظمة كلّ نجوم مجرّتنا وربّما غيرها من المجرّات. ونكون حتماً قد صرنا نحن نتخلّى عن شموس، ونُبقي على شموس. فلْنتصوّر إذّذاك ما سيصير إليه الإنسان من قوّة مُذهلة، تكاد توصله إلى المُعجزة، وهذا الشأن هو أمر سهل. الذي ليس سهلاً، ويشكّل مسألة المسائل اليوم، هو كيف نقرب من يوم المُعجزة ذاك.
وهنا يُزايد الشاعر سعيد عقل على العالِم الفيزيائي فان دوكسبرج، وربّما على غيره من العُلماء، عندما يطرح “حلولاً مُقنعة” للعِلم نفسه وللعُلماء أنفسهم، وذلك في ما خصّ فرضيّة انطفاء الشمس ودمار الأرض والنظام الشمسي برمّته، وبالتالي الإسهام في إزالة كأس الرعب والإرعاب عن البشريّة جمعاء، حتّى ولو بعد خمسة مليارات من السنين، فهو كشاعر يشعر مع حَفَدة البشريّة الأبعدين، أولئك الذين سيكونون قد عرفوا برهبة ما سيحصل لهم وبقوا عاجزين عن عمل شيء
ومن هنا، من جوّ العِلم وجوّ الشعر، عدتُ لأسأل سعيد عقل: على ما يبدو أستاذي الكبير أنتَ انطلقتَ من شعريّة طاليس كفيزيائي وفلكي في المقام الأوّل، وليس كشاعرِ نصٍّ لغوي؟ أجابني في ما يشبه الجزم القاطع: “طاليس شاعر وكفى.. شاعر يرسم مُعادلات الكون ويُهندس قواعدها، بعقلِ عالِمٍ وعقلِ شاعرٍ دفعةً واحدة. ومهما يكُن من أمر، فسيظلّ العالِم مع الشاعر في فردٍ واحد، هو مَن سيتولّى إنقاذنا من صقيع العقل وصقيع الضمير وصقيع العدم”.
سعيد عقل والوضع الماليّ
دخلَ لبنان هذه الأيّام زمن الانهيار الماليّ الكبير. ولا شكّ أنّ كثرة كاثرة من أهل هذا الوطن المسكين المأزوم، باتوا، جرّاء ذلك، في حالة انعدام وزن، وقلق ما بعده قلق، ومصيرهم على ما يبدو تخطّى أو سيتخطّى المصير المجهول لمُواطني الدول الأكثر إفلاساً في عالَمنا المُعاصر
في ظلّ هذا المناخ الاجتماعي اللّبناني الكالِح الممرض، عثرتُ على نصٍّ كان كَتبه ونَشَرَه الشاعر سعيد عقل في جريدة “الجريدة” اللّبنانيّة بتاريخ 23 أيّار (مايو) من العام 1970 تحت عنوان “طائر الفينيكس”، يسرد فيه حال المال والمصارف والسراي الحكومي وقتذاك، فلنقرأه
“أذاعت وكالة “رويترز” على صُحف العالَم أنّ لبنان تخطّى وضعُه المالي ما كان عليه حتّى في إبّان ازدهاره، أي في العام 1965 قبل سقوط بنك “إنترا”
في نهاية العام الماضي 1969 بلغت الودائع في مصارفه 3 مليارات و314 مليوناً، فيما كانت قبل سقوط بنك “إنترا” 3 مليارات و52 مليوناً
ولكي يعلم القارئ حقيقة أخرى هي أنّ بعض الخبراء يعتبرون أنّه، في مقابل كلّ ليرة مودَعة في المصرف، يُودِع الناس في “بنك مخزنك عبّك” ثلاثاً. على هذا يكون تحت تصرُّف اللّبنانيّين اليوم، من النقد والودائع والسندات، في المصارف وغير المصارف 13 ملياراً و256 مليوناً
لو أنّ السراي عندنا أراد تنفيذ أقوى المشاريع التي يتطلّبها لبنان لوجد المال على أرض لبنان نفسه
شرط واحد مطلوب: أن يكون في السّراي حُكم يوثق به”