. بقلم د. دورين نصر
د. دورين نصر
تجربة الكاتبة لونا قصير الروائيّة تشغل مكانًا فريدًا في الرواية العربيّة المعاصرة، ليس فقط لأنّها تجربة مجدِّدة على صعيد استثمار مقتضيات الشكل الروائي وأدواته التركيبيّة والسرديّة، ولكن أيضًا على صعيد الرؤية الفكريّة التي يستنبطها المحكيّ، ويستمدّ عناصرَها من المتخيّل والمعيش. ما يمثّل رافدًا لتعميق علاقة الرواية بالتجربة الإنسانيّة، إذ تحاول الكاتبة أن تسبر أغوار النفس في بناءٍ مفتوحٍ متعدّد الحبكات والشخصيّات. فتتحوّل التجربة الإنسانيّة إشكالاً جماليًّا إضافةً إلى كونها إشكالاً معرفيًّا أو ثقافيًّا.
تتألّف هذه الرواية من ثلاث مئةٍ وخمسٍ وثلاثين صفحةً مقسّمةً إلى واحدٍ وأربعين فصلاً. تدور أحداثها بين لبنان وأميركا. عالجت فيها الروائيّة ثنائيّات وموضوعات شتّى كالحبّ والحرب والدين والعادات والتقاليد والحداثة، إضافةً إلى الصراع بين الشرق والغرب، كما تطرّقت إلى قضيّة إنسانيّة ألا وهي قضيّة وهب الأعضاء.
في هذه الرواية أنتَ لستَ بحاجةٍ إلى اكتشاف الطريق. فمعالِمُها تُهديك على هواها لأنّك أمام أسلوبٍ استثنائيّ من القراءات الحديثة. إنّ ترتيب هذه القصّة يتوافق مع الترتيب السردي للرواية، غير أنّ التنظيم المتقيّد بالترتيب الزمني لا ينفي وجود عدد من المفارقات الزمنيّة الواردة في بعض أقسام الرواية، كاسترجاع ذكريات القرية مثلاً، إذ تتذكّر إحدى الشخصيّات – سلام شقيقة سعاد -، رائحة التراب الممزوجة برائحة خبز الصَاج التي كانت تفوح بقوّة وتفتح الشهيّة، حيث كان الأطفال “يلعبون في جميع الألعاب دون ثياب” والأمثلة كثيرة في الرواية.
والواقع، إنّ الخطاب السردي في الرواية لم يعمل على استرجاع الزمن الماضي من أجل الاستعراض فحسب، وإنّما جعله متداخلاً في الحاضر، فتلاحقت الأحداث وتتابعت إذ نشعر بأنّ الزمن يجري بنسقه الطبيعي نحو المستقبل. ومع أنّ كلّ فصل شكّل قصّة قائمة بحدّ ذاتها، متضمّنة مقوّمات عناصر السرد الأساسيّة، إلاّ أنّه لا يمكننا حذف أو تقديم أيّ فصل على آخر، ما يوحي لنا بثبات التسلسل، ويجعلنا نشعر بأنّ يد الروائيّة لم تهتزّ أبدًا أثناء الكتابة.
هكذا تعاضدت كلّ الفصول بنسيج واحد يجمعها خيط المحبّة والإنسانيّة، إلاّ أنّ الذي جمع بين شخصيتيّ سعاد ورياض يبقى الحجر الأساسي في الرواية، وكأنّنا أمام شجرة عائلة جذورها راسخة في أرض الوطن مهما قسا عليها الزمن ومهما عصفت بها رياح الغربة. وقد تمكّنت الروائيّة بذكاء أن ترسم مسار الشخصيّات وتحدّد أنماطها، فغدت الشخصيّة المحوريّة “سعاد” هي المحرّك الأساسي لكلّ الأحداث التي اشتغلت عليها الفصول الأخرى. وقد أدّت كلّ شخصيّة دورًا في محتوى الرواية، وفي تحرّكها نحو مسارٍ معيّن ونحو زاوية محدّدة، مع الإشارة إلى أنّ كلّ شخصيّة احتفظت بدورها المهمّ في الرواية، إلى أن انقلب مسارُ حياتها كلّيًّا بعد موت داني ابن (روز ورائد)، وكأنّ موته أسّس لنهايةٍ ما لبثت أن تحولّت إلى بدايةٍ جديدة. وقد جسّدتها تلك الشجرة التي اعتنى بها داني، وقد تعانقت أغصانها كتعانق صلوات أفراد العائلة، لأنّ البورة الصالحة لا تنبت إلاّ في أرضٍ خصبة.
وقد أظهرت كلّ التفاصيل بأنّ معرفة الروائيّة تتساوى بمعرفة الشخصيّة، ومن الأمثلة على ذلك: “عندما عادت سعاد إلى قريتها، فرحتها كانت لا توصف، وكأنّها تريد أن تسترجع ذكريات طفولتها”. مثل آخر: “تعشق سعاد قرية صفرين، وتعتبرها من أجمل قرى الاصطياف” والأمثلة في الرواية كثيرة. فتكون الروائيّة بذلك قد شاركت في رسم امتدادات الشخصيّة وأنضبت معارفَها وفسحت مجالاً واسعًا أمام القارئ.
نضيف إلى ذلك، بأنّ الكاتبة توغّلت من خلال هذه الرواية، إلى أعماق الذات الإنسانيّة. ولا شكّ في أنّ أيّ عمل روائيّ يقدّم رؤية جديدة للأمور والقضايا، وهي التي تكشف عن خصوصيّة أي عمل. فالروائي عندما يكتب نصًّا سرديًّا، يوظّف أفكارًا تعبر بحقائق واقعة وتخلق عالمًا من الشخصيّات والأحداث التي تُعدّ بدورها من العناصر الرئيسة للرواية التي يصبح السّرد فيها خزّانًا للقيم والمشاعر والخبرات الإنسانيّة.
من هنا، سلّطت الكاتبة الضوء على قضيّة التقاليد والعادات، فبالنسبة إليها، الانتماء الحقيقي يكون إلى القيم التي تعصُمُ الإنسان عن ارتكاب الآثام، إذ يَقول “رائد”: “روز، هناك تقاليد وعادات تبقى راسخة في عقولنا منذ طفولتها ومهما تغرّبنا وعشنا بعيدًا عن وطننا”.
كما تعتبر الكاتبة الإنسان قيمة بحدّ ذاته من دون فوارق العرق أو الجنس أو الدين. رائد وروز يتزوّجان على الرّغم من اختلاف الدين، كذلك جورج وناديا. وفي النهاية الصلاة الجماعيّة بحرارة هي التي أنقذت العائلة، إذ بالنسبة إلى الروائيّة: “الدين محبّة وسلام”.
كذلك سلّطت الضوء على قضيّة مهمّة للغاية ألا وهي “وهب الأعضاء”، فها هو داني ينبض من جديد في قلب جورج وداني الصغير يتبرّع بكليتيه لآدم. فالروائيّة لا يعنيها إلاّ حضور الإنسان المتوّج بالكِبَر. فبالنسبة إليها، تحقيق الذات له شروطه، إذ يستدعي إبعادها عن شوائب مدنيّة مزيّفة.
وغُرفتها المغلقة ليست مغلقة بالمعنى التعييني للكلمة، بل اتّخذت بعدًا آخر، تحوّل من خلالها العالم إلى قريةٍ كونيّة صغيرة. فالإنسان الحقيقي في روايتها لا ينسلخ عن جذوره وأرضه وإن ابتعد عنها ما يوثّق العلاقة بين الشخصيّة والمكان، إذ بقي لبنان ملاذًا لكلّ الشخصيّات وتحديدًا قرية صفرين، وبقيت غرفة رائد السريّة على الرّغم من الحزن الذي خيّم عليها مصدر فرحٍ للأولاد بما تحمل من ذكريات ومشاعر. وغرفة داني بعد أن بقيت مغلقة ردحًا من الزمن فُتحت وقد انفتح بذلك أفق جديد في المستقبل.
تأسيسًا على ما سبق، يمكننا القول بأنّ البعد الإيديولوجيّ في رواية “غرفة مغلقة”، بان من خلال طرح قضايا اجتماعيّة ما زالت تساور المجتمع العربيّ. وأبرز هذه القضايا تجلّت من خلال توظيف الثنائيّات الضديّة كالحرب والسلم، التقليد والحداثة، إضافةً إلى قضايا الدين والعقل ووهب الأعضاء أو معارضة هذا الأمر.
وقد تجلّى إبداع الروائيّة من خلال النهضة بهذه القيم التي باتت مهمّشة في مجتمعنا وإظهارها عبر الشخصيّات والسرد والحبكة الروائيّة واللّغة السرديّة التي ارتقت بالنّصّ إلى مستوى أنيق، جعل الإيديولوجيا تتسرّب إلى المتلقّي من خلال قنوات الوظيفة الجماليّة.
كما تبيّن لنا بأنّ المسار في الفصول هو قائد الكلام، والمسار هو ما يستدعي العلامات ويرسم الإشارات نحو المعنى؛ إنّه عمليّة تحرّر وانعتاق وتجريد، يتحرّك بتتابع، مفاجأة إثر مفاجأة، حتّى يبلغ مرحلة القبض على اللّحظة.
فهل سيدرك القارئ الذي سيتلقّف الرواية بمختلف تفاصيلها أهميّة هذه القيم التي حاولت الكاتبة أن تنشرها على شاطئ الحياة؟