فاتن محمد علي
حالة من البحث ، البحث عن الذات ، البحث عن ذوات اخرى تشبهُها ، اختيار لذوات ، تبحث عن ذواتها ايضا ، الغوص فى النفس ، وسبر اغوارها ، البوح ، وفيه تلتقى هذه الذوات مع الذات الاولى البحث فى ابداعاتها ، فى تلك الافكار التى هى اسقاط على تلك النفس المعذبة دائما ، الونس بتلك الذوات البوح لبعضهن البعض
لاشك اننا امام رواية مختلفة ، واستثنائية ، اذ اننا تعودنا فى الروايات ان تكون بتكنيك معروف قصة وصراع وحبكة ونهاية ، وبالطبع هذا يحدث من خلال شخوص تعيش فى زمن ما ، ومكان ما ولكن هالة/الكاتبة ارادت ان تتوسل تقنية السرد الأفقي
ويأتى السرد فى شكل زيارات وحوارات بين هالة و شخوص من ازمنة مختلفة ، وامكنة مختلفة ، ليس هذا فحسب بل ايضا شخوصا ذهبت الى بارئها ، اختارتهن وراحت تسأل وتبحث عن سبب اختيارها هذا ، سؤال ظل طوال الرواية مطروحا ، حتى بعدما ادرك المتلقى وجه الشبه بينهن وبين هالة على نحو ما ، الشخوص تضم إنجيبورج باخمان (1926 – 1973)الروائية والشاعرة النمساوية الشهيرة، وكذلك جورجيا أوكيف (1887 – 1986) ، أحد رواد الفن التشكيلى المعاصر فى أمريكا والتى سميت ب أم الحداثة ، وقوت القلوب الدمرداشية ( 1887 – 1986)
تلك الروائية المصرية التى لا يعرفها الا القليل
..اى ابداع هذا من خيال ثرى ونفسٕ تواقة تتنفس ابداعا
لم تقف هالة وشطط خيالها عند بطلاتها الثلاث باخمان واوكيف وقوت ، ولكنها ايضا استدعت رجالهن ، بل ذهبت لابعد من هذا ، فقد استدعت ايضا بطلات قصصهن ، كل هذا تماهى مع ذاتها وابداعها ، فأحضرت ايضا بطلة روايتها فما اجمل استدعائها لهن ؛ انا ، رمزة ، وناهد ، وجعلتهن يجلسن معا يمحصنا ويبدين رأيهن فى مصائرهن حسب كل كاتبة ، وفى براح البوح الذى تعمدته هالة دون اى وصاية ، وبكل اريحية رحن البطلات يحللن ويعلقن على الاحداث التى صنعتها الكاتبات لهن .تقول هالة ( اردت ان التقى بطلات الروايات وحدهن من دون سلطة الام ، وليس الاب .. وتضحك ) تضحك لان السلطة التى تعودناها هى السلطة الابوية ، وهنا بالطبع تقصد بسلطة الام كاتبات ومبدعات تلك البطلات
لقد بلغت هالة البدرى بتلك الرواية مكانة طليعية برأى ، بهذه التجربة الاستثنائية فى التكنيك، والسرد وطرق مواضيع حساسة تصل لكونها من التابوهات ، وقدمت رواية تكاد تنتمى للسير الذاتية بشكل مغاير تماما لروايات السيرة الذاتية التقليدية ، فقد خلطت بين الواقع والخيال حين تناولت سيرتها ، حين اختلقت حبيبا لها تراسله وتبثه حبها وتوقها له ، وتماهى هذا من سيٌرا حقيقية لشخوصها المختارة ؛ حيواتهم اقرب للتسجيلية او الوثائقية
لم تُقسم الرواية الى فصول ، ولكن تم تقسيمها الى قسمين اساسيين ( عندما يأتى المساء , فى الليل لما خلى )
وبينهما مقاطع سردية تحت عناوين محددة ، وتتراوح بين الطول والقصر حسب العنوان ، على سبيل المثال : احتراق : رسائل اوكيف واستجليتز ، مالينا .. الخ .. تتناول فى هذه المقاطع السردية فى قسم المساء سير حياة شخوصها وعلاقتهن بازواجهن ، وعشاقهن ، وتقترب بحذر من سيرتها بأعتبارها شخصية داخل الرواية بكل حيادية
ثم تتناول ابداعاتهن فى القسم الثانى وتتوالى الزيارات والجلسات بين الكاتبة
وضيوفها / شخوص الرواية ، وتشرك المتلقى معها فى نسج خيوطها ، من خلال سؤال ظلت تطرحه لجعل القارئ يعمل فكره فتسأل ما الذى يجمعها مع تلك النساء ، وليس هذا وحسب ، بل تطلعه على حيرتها فى كتابة و حياكة تلك الرواية متوسلة تقنية كسر الايهام، حين تضع الكاتبة عنوان فرعى ( صناعة الرواية ) تلك التقنية تزيل الخط الفاصل بين الواقع والخيال ، ويحسب لها استخدامها لاننا امام رواية ترتكز على وثائق وتقترب من التسجيلية ، اذ جمعت الكاتبة مادتها من معلومات حقيقية لسيّر نسائها ، وبين القسم الاول والثانى نعيش مع معاناتهن ، ولكن تلك المعاناة لم تقف حائلا بين نجاحاتهن وتحققهن
قدمت الكاتبة العديد من الفنون والاجناس الادبية ، فطالعتنا على التصوير الفوتوغرافى الذى صار فنا لا يقل عن اي نوع من الفنون التشيكلية على يد استجليتز هذا المصور الفنان الفذ ، قدمت الرسم الحداثي لاوكييف وشرحت لنا قراءة لاعمالها المتميزة وخاصة زهرة الخشخاش التى رمزت للانوثة ، وسمعنا معها اغانى اسمهان وموسيقى عالمية . بالاضافة لسياقات ثقافية غربية تمثلها سيّر حياة الشخصيات النسائية فى هذه الرواية ؛ تجعل الرؤية تتسع لتشمل الذات الإنسانية عن المرأة والرجل معاً فى أزمنة وأمكنة متباينة فيما يتم التركيز على قضية البحث عن الذات لدى المرأة فى تكاملها العقلي والحسي والتعبير بحرية عن دواخلها ..من خلال حالة من تشظى الذات ليست لدى نساء هالة وحسب ، ولكن هذا التشظي يصيب ايضا ذات هالة/الشخصية داخل النص ، بالاسقاط ، وتعد هذه وسيلة لاكتشاف دقائق الأمور عن الذات ومواطن جمالها وخباياها
وفى خضم هذا التشظى ، لم تنس هالة تناول حياتنا الاجتماعية ومآلت اليه من تردى .. تقول هالة / الساردة
” ادركت مأزق امى الحقيقى وشعورها العام بالغربة حين هجمت على مصر رياح التغيير وتبدل المناخ الثورى ، وحاولت قوى رجعية النفاذ الى افكار المجتمع فى عقاىده الاساسية ، ووجهت شراستها ناحية المرأة ، اذ واجهت انا داخل عائلة امى التى اصبحت بعد ذلك عائلة زوجى ، اسئلة كبرى فى دينى بسبب رفضى ارتداء الححاب ، وخسرت قريبة لى جاءتنى ثائرة ذات يوم قائلة انت عقبة فى سبيل تربية بناتى .. يرفضن ارتداء الحجاب ، لانك لاتردينه “
ونأتى للقسم الثانى من الرواية (الليل لما خلى) الذى تتناول فيه الكاتبة ابدعات تلك النساء ونجاحاتهن من خلال المعاناة تنتج كل منهن ابداعها الخاص فنجد أوكيف تعاني أزمة الفناء جراء قضية تأطير الأنثى ليس بفعل زوجها المصور الفوتوغرافي الشهير وإنما أيضًا بفعل المجتمع. فأولا قام زوجها بتصويرها عارية وعرض صورها في معرضه قبل معرض لوحاتها بنيويورك مما جعل الفضائح تلاحقها بقية حياتها، كما انّه فرض أسلوبه وتقنياته الفنية عليها وتقديمها في المحافل حتى بدت كما لو كانت صنيعته، ثم خيانته لها وتفكيره المنحرف بتبريره؛ ان تلك الخيانة لمصلحتها. كما قام المجتمع الذكوري بممارسة عملية تأطير لها إما بربط أعمالها بالإيحاءات الجنسية أو حتى حينما أراد الاعتراف بموهبتها الفذّة لا يشير إليها كرسامة بهوية مستقلة وإنما يشير إليها كــ “أفضل امرأة رسمت / بيكاسو الأنثى”
تتخذ اوكيف الخطوة الثانية من قضية البحث عن أصل الوجود وهي الانطلاق للبحث في الطبيعة الأم تسافر إلى صحراء نيومكسيكو حيث ” الطبيعة الحقيقية والوضوح الذي يجمع الموت بالحياة” ترسم جماجم الغنم منفتحة على السماء محلّقة، معلنة أن الحياة موجودة رغم الفناء”، فإذا نظرنا إلي الجماجم والقواقع لا نجدها تختلف كثيرا عن صور الورود، فهي تشبه أيضًا رحم المرأة والنقطة التي تبدأ منها الحياة
وتبدع باخمان رغم صدماتها النفسية ، وفشل تجاربها مع من احبت ، تنتج العديد من الإبداعات فى عدة مجالات فى الشعر ، والرواية وتحديدا رواية (مالينا) التى تناولت فيها جوانب من حياتها ، وبثت فيها آراءها تقول على لسان بطلتها آنا ( تطاردني الأحلام والكوابيس التي تصوّر النازية ومخيمات الموت ووسائل النقل وخاصة القطارات والعلاج بالصدمات الكهربائية والغاز ومعاناة النساء” ، تأثرا بالحرب والنازية كتبت باخمان ( قبل المدافع والحروب ، جذور الفاشية موجودة فى علاقة الرجل والمرأة ) تلك الافكار والمعاناة صنعت ابداعها كما حدث ل «قوت القلوب» التى تزوجت رغما عنها ، زوج فُرض عليها ، طلقت نفسها بالعصمة التى تمسكت بها بعد انجاب اربع ابناء ، ثم اخفاقها فى جعل حبيبها الصحفى(محمود ابو الفتح) يبادلها حب بحب فأنكبت على كتابة العديد من المخطوطات باللغة الفرنسية ، وكتبت رواية (الحريم) التى بثت فيها سيرتها ، وعلى غرارها هالة التى فقدت زوجها واعتبرت رحيله خيانة لها ، فأنكبت على ابداعها
وحين ينتهى القسم الثانى من الرواية تختفى شخوص الرواية حيث يستقرن فى طيات الكتاب ، تقول هالة ، تحت العنوان المتكرر (صناعة الرواية )
“بدأت اكتب الرواية بعد ان اكتملت ملاحظاتى على المسودة”.. وهنا تنتهى زيارات نساءها؛(باخمان) و(جورجيا) و(قوت) ، ويختفى رجالهن (سيلان) و(فريش) و(ستيجليتز) ، ولم تسمع هالة مرح ومعارك شخوص روايتها ورويات ضيفاتها؛ (رمزة) و(ناهد) و(آنا) .مع كاتباتهن
نهاية الرواية متفردة كما الرواية ، وهنا نستطيع ان نصنفها بانها ليست حداثية وحسب ولكنها ما بعد الحداثية ، نعم لقد كتبت هالة البدرى رواية طليعية ، مثلما تكتب مفردات خاصة جدا ربما لا يستخدمها الكثير من الادباء
تحية لهالة البدرى المبدعة ، وقلمها المتفرد
ملحوظة
لقد حاولت تكثيف مقالتي ، وحجمتُ شططي الذى يليق بثراء وشطط ابداع هالة ، فالرواية تحتمل الكثير والكثير من القراءات