في عام 1990 خرج علينا المخرج علي عبد الخالق والمؤلف محمود أبو زيد بتحفة فنية تُدعى “البيضة والحجر”، والذي حقق نجاحًا واسعًا في شباك السينما، كما تلقى نصيبه من النقد كغيره، لكن تم تصنيفه كأحد أهم الأفلام التي رصدت التغيير الذي حدث للشعب المصري في فترة الثمانينات والتسعينيات، وهو تغيير لو تعلمون عظيم؛ إلا أنَّ اللافت بالفيلم أنه تناول جانبًا واحدًا بشكل تفصيلي، الخرافات المتوارثة، وهي ليست جديدة على وجدان مجتمع له باع في التراث الشعبي من طب ومعتقدات وعادات وحكايات كالمجتمع المصري، فالفيلم ألقى الضوء على خطورة الخرافات، ليست تلك النابعة من التراث بل النابعة من الظروف الراهنة، الخرافات الحديثة التي خلقت لنفسها مكانًا على الساحة ضاربة بعرض حائط العلم والتكنولوجيا.
الفيلم ببساطة يحكي عن شاب رافض للانخراط داخل نسيج المجتمع حيث شهوة الاستهلاك المستشرية التي تجبر المجتمع على الخضوع أمام كل زيادة في الأسعار بناء على اعتبارات طبقية تشكلت حدودها من عدة عوامل، أهمها الهجرات للخارج والسفر للعمل بدول البترول التي عاد منها مواطن مصري مهجن بلهجة غريبة وثياب مختلفة وثقافة مالية ومتطلبات جديدة والتي تحولت مع الوقت لأساسيات يركض خلفها المجتمع لاهثًا
ومن هنا يبدأ مستطاع التعظي (إسم البطل الذي قم بدوره الفنان أحمد زكي) الذي أقر منطقه الخاص ومارسه منذ اللحظة الأولى وهو “محاربة الغلاء بالاستغناء” فتخلى عن جميع المظاهر الخارجية، ركب دراجة بالرغم من كونه معلمًا، ورفض العمل بغير تدريس الفلسفة التي يحبها بالرغم من إعتراضات أسرته، وقرر الاستقرار داخل غرفة فوق سطح أحد المنازل متحديًا رفع مالك الشقة التي سكنها رفقة صديقه (توابع) تكلفة الإيجار، فنعم (المستطاع) بسعادة كامنة من السيطرة على نفسه والتحكم بشهواته، لكن حين يعلن عن مبدأه لطلابه كإجابه على أسئلتهم توضع تحت بند “الكلام الأحمر” على حد وصف مدير المدرسة – أي الرأس العليا المسؤلة عن تعليم الأجيال- و كانت النتيجة أن تم تحويل المستطاع للتحقيق بتهمة (الشيوعية والتطرف والزهد والتصوف و حمل الجنازير) وتم تتويج الاتهامات السابقة بإتهام واحد بدا الأخطر من بينها “هذا وقد اِعترف أمامنا بأنه صاحب مبدأ”، كما ورد على لسان المحقق، فالمبدأ يقوم على الفهم والفهم يعني الانسلاخ عن القطيع، وهي أكبر جريمة يرتكبها الفرد في حق مجتمع إختار طمس عينه عن حقيقة على طريقة قصة بلد العميان لصاحبها هربرت جورج ويلز، ليتم فصل المستطاع عن عمله وتبدأ الرحلة الأساسية في الفيلم
لا يحق لأحد أن يدَّعي أنه صاحب مبدأ ما لم يتم اِختباره، وهي برأيي الشخصي الفكرة المحورية في القصة، مواجهة المستطاع لنفسه، إذ كان على المستطاع مواجهة الاختبار متمثلاً في خرافة صغيرة مرتبطة بالغرفة التي اِستقر بها، فسكان العمارة – والتي تمثل المجتمع بطبقاته وثقافته – يؤمنون أنها مسكونة بروح رجل قُتل داخلها وتلطخت جدرانها بالدم، وبقيت الروح على عهدها بالانتقام من كل ساكن حتى سكنها دجال يدعي سباغ، وهو من حمى السكان من شر روح القتيل بالسيطرة عليها مستندًا على كراماته مقابل أموال يدفعها له السكان لحمايتهم، لكنه اِختفى فجأة ولا يدرك أحد أين ذهب، إلا أنَّ معاونيه الاثنين اِستغلوا الأمر فأقنعوا السكان بالاستمرار في دفع الأموال لاستمرار حمايتهم، فسباغ مُطلع حتى في غيابه ومن وقتها لم يزعزع تلك الفكرة سوى اِستقرار المستطاع بالغرفة – الغرفة القابعة بالسطح لتؤكد على وضع الخرافات بقمة هرم أفكار المجتمع
“الوهم يساعد على تقبل الإيحاء فيصبح الفرد قادرًا على سماع أشياء لم تقل، ورؤية أخرى لم تحدث”
وبينما المستطاع يواجه كيد معاوني السباغ، ويبحث عن العمل بعد فصله، يبدأ السكان في نسج الخرافات حول كينونة المستطاع، فالوهم المزروع داخل رؤوسهم عن جهل يكون شديد الحساسية تجاه أي محفز خارجي، وهو ما يعرف بالإيحاء، “الوهم يساعد على تقبل الإيحاء فيصبح الفرد قادرًا على سماع أشياء لم تقل، ورؤية أخرى لم تحدث”، وبناء عليه آمن السكان بقدرة المستطاع، واجتهدت عقولهم في ابتداع كرامات له بتخيل أشياء لم تحدث لكن مجرد سماع كلمات متطايرة كان كافيًا لنسج قصة رددها شخص واحد فآمن بها الجميع، وهي الوسيلة ذاتها المستخدمة لنشر الشائعات إلى اليوم، وكانت شائعة قوية إلى حد عجز المستطاع نفسه عن نفيها بالرغم من قسمه بأغلظ الأيمان أنه ليس وليًّا ولا كرامات له ومحاولاته لنفي كل ما طرأ بخاطرهم تجاهه والتأكيد على قيمة العلم في مواجهة الجهل، ومع الوقت قرر المستطاع الرضوخ لرغباتهم
واِنطلاقًا من هنا يتضح مسار أخر للفيلم، المسار النفسي للشخصيات، فقد اِدَّعى المستطاع أنه أراد مساعدة الناس على المعرفة، وإنارة الطريق لهم، ولكنه في الحقيقة قرر اِستغلال جهلهم لحاجة في نفسه، وهي كسب العيش بعدما فُصل من عمله، لكن المستطاع أيضًا إحتاج لحجة لإقناع عقله وتغييب مبادئه، وهي أنه سيحارب جهل الناس بإقناعهم أن الحل في العلم وليس في الخرافات، فالمعارك الكبرى التي يخوضها الإنسان داخله وليس خارجه، وتلك النقاشات التي دارت بين المستطاع وتابعه وصديقه لم تكن لأجل إقناع صديقه أو تبرير موقفه له فهو بالنهاية تابع – كما اِختار له المؤلف اِسمه على غرار باقي الشخصيات التي دلت أسمائها على صفاتها – لكن المستطاع كان يعلن حجته على عقله ويرددها بصوت مرتفع حتى يقتنع فيتولى مهمة تضليل ضميره
فالمعتقدات والأفكار تتشكل داخل الإنسان وليس خارجه ربما يكون للمجتمع دور كبير لكنه يقف عند حدود غرس البذرة الأولى للأفكار ورعايتها في طفولتنا برسم حدود شخصياتنا
فالمعتقدات والأفكار تتشكل داخل الإنسان وليس خارجه ربما يكون للمجتمع دور كبير لكنه يقف عند حدود غرس البذرة الأولى للأفكار ورعايتها في طفولتنا برسم حدود شخصياتنا لكن عند مرحلة النضج تصبح أنت سيد نفسك، تملك زمامها بشكل كامل فتقرر مبادئها وحدودها وفي تلك المرحلة تبدأ في التلاعب بعقلك فتخلق له التبريرات والحجج لإقناعه بأمور أو نفي أخرى
وأزمة المستطاع الكبرى أنَّه كان يعلم الحقيقة كاملة، يعلمها إلى درجة جعلت الغرور يتملكه معتقدًا أنه يستطيع اللعب بـ”البيضة والحجر” بعدما أدرك مفتاح السيطرة على الآخرين، ألا وهو الخوف – وهو مفتاح قديم في السيطرة على الشعوب وفتح باب الجهل والخرافات – إلا أنَّه برأيي الخطأ الذي اِرتكبه هو الاستهانة بقوة الطرف الآخر، ربما في بداية الأمر اِستطاع الانتصار على الخوف والمعتقدات الخرافية المتوارثة كعدو؛ لكن كفة الانتصار بدأت في التخلخل، حين تراجع المستطاع عن رؤيته الحقيقية للخوف كعدو له وللآخرين، وبدأ في سلك درب أخر، وهو التحالف معه، وقد أعماه الغرور إلى حد اِعتقاده في قدرته على السيطرة عليه، ولم يأخذ باِعتباره للحظة واحدة أنَّ الخوف أيضًا له حسبته، وهو لن يسمح له بالاستيلاء على عبيده، وتسللهم من بين أصابعه كحبات سبحة تنفرط، لذا لجأ الخوف لسياسة المهادنة وأحنى جبينه للمستطاع قليلاً حتى يشعره بلذة الانتصار، فهو بالنهاية من بني آدم، وجميعهم تغمرهم لذة الانتصار تلك حتى المؤقتة منها، وما إن إبتلع المستطاع الطعم بمجرد كشفه لأتباع الدجال السباغ، وما يوهمون به الناس من قدرته على حمايتهم، ويجمعون لأجله الأموال والذبائح بحجة وضعها على باب الجامع الذي لم يشم رائحتها أبدًا – ولا أريد للظن أن يأخذني لصناديق الزكاة الموضوعة أمام أبواب بعض الجوامع، لكن لي عذر فبعض الظن يبقى إثمًا -حتى بدأت المرحلة الثانية داخل خطة الخوف ذاته، وهي باستدراج مستطاع التعظي نفسه لاستغلاله
ما فعله المستطاع كان اِستغلال خوف البشر، والذي ظهر على هيئة مشاركتهم اللعبة التي اِرتضوها لأنفسهم ودخلوها بإرادتهم، والفرق بينه وبين الآخرين يكمن في المدخل الذي سيدلف منه للعبة، فإذا دخلها الجميع من باب المخدوعين سيدخلها المستطاع من باب المتحكمين بنظام اللعبة، وقد سار الأمر وفق خطة المستطاع طالما بقي غير مستفيد من مساعدة الأخرين للتغلب على خوفهم، فجاءت المشاهد متتالية بطيئة في التغييرات التي تحدث للمستطاع، وتظهر في الأماكن التي يجتمع فيها مع صديقه توابع، والذي كان له نصيب من إسمه كجميع الأبطال بالفيلم، فلم يختلف عن باقي العبيد سوى في طبيعة السيد الذي يخدمه، وفجأءة تحدث تغييرات مفاجئة، فنجد المستطاع ينزل من سلم الطائرة يتحدث عن شركاته وشركات أتباعه، والمحاضرات التي يلقيها بالخارج، وجدوله المليء بمواعيد حجزها رجال اعمال بإنتظار رؤيته وأداء دورهم باللعبة. كما نجد أيضًا تغييرًا جذريا بالمستطاع، لحظة اِكتشافه فقدانه بوصلته وضلاله عن طريقه، فمهما تعددت مداخل اللعبة فجميعها تؤدي إلى النهاية ذاتها: أنت عبد داخل تلك اللعبة لأنَّك ببساطة خسرت مبدأك الرئيسي عند باب المدخل، خسرت سيطرتك على نفسك، وتحكمك بشهوتك، أي أثبت المستطاع تخليه عن مبدئه بين براثن الاختبار، فقد خسر المستطاع، واللعبة لا يوجد بها فائز من الأساس
لم ينس المؤلف الإشارة إلى وسائل متعددة اتم بها السيطرة على المجتمع يوميًا، كعلوم الفلك من طالع الأبراج أو قراءة الفنجان أو الكفوف أو الحديث عن الأرواح والأشباح والسحر والأعمال، أو السخرية من علوم كالفلسفة والتساؤلات المنطقية التي تساعد على معرفة الحقائق فتكون النتيجة إمكانية تفسير أي ظاهرة بما يعزز الخوف عند الأفراد – كظاهرة دوران الحيوانات حول نفسها أو الأشعة الزرقاء التي تظهر في السماء بعد الزلازل والتي يتم نسبها لعلامات قيام الساعة – فطالما أنَّك تحت تأثير الخوف المدعوم بالجهل ستستجيب لأي إدعاء حتى لو بدا غير منطقي، وسيقاوم عقلك جميع التفسيرات العلمية. وبعد معرفة أسباب نشر الخوف ونتائجه جاء التساؤل الأكثر خطورة، والذي طرحه الكاتب على إستحياء: ”من المسؤول عن نشر الخرافات ومحاربة المنطق؟”؛ وأجاب عنه داخل الفيلم بالإشارة إلى ثلاث منظومات التعليم، والإعلام والأمن
أما عن النقد الذي أوجهه للفيلم فكان أهمه دس عبارات ثقيلة في قالب الحوار الخفيف مما أعطى الأمور أكبر من قيمتها، كما جاء على لسان صاحب العمارة: ”الاوضة ديه لو مسكنتش هتبقى وصمة عار في جبين مصر، وستصبح دلالة قاطعة على جهل الناس، وانحطاط الثقافة واِنهيار التعليم”، أو غيرها من التعريفات التي وردت على لسان المستطاع، على مدار الأحداث، واِتَّهم البعض السينارست بتعمد دسها لإضفاء قيمة للحوار، ما أدى إلى خلق فجوة بين مستوى الأحاديث من سلسة إلى شديدة التعقيد، وبرأيي أنَّ السينارست تعمد إضفاءها ليؤكد على خروج حدود الأزمة خارج إطار العمارة السكنية، وعدد محدود من أفراد المجتمع، فالجهل وغياب الوعي أزمة حقيقية، وما قيل في سياق الجمل التقريرية من اِنهيار المجتمع والتعليم، هي نتائج واقعية للجهل، ولا مجال للمبالغة فيها، إلى جانب حرص الكاتب على ذكر مصطلحات لا تليق بشخصيات مثقفة كمدير المدرسة وبعض الأساتذة ورئيس تحرير كتوابع، أو حتى الطبيب الصيدلي الأخ الأكبر للمستطاع، ليوضح أنها باتت مصطلحات عادية لا تقتصر على أصحاب المستوى التعليمي المتدني، بل اِنتقلت لتصبح جزءًا من ثقافة مجتمع وهو أمر أكد عليه الكاتب محمود أبوزيد في فيلمي “الكيف” و”العار”
و أخيرًا اِنتهى الفيلم بمشهد التحقيق الثاني الذي خضع له المستطاع، لكنه هذه المرة خرج بريئًا على الرغم من اِعترافه بممارسة الدجل والشعوذة، على عكس التحقيق الأول، الذي اِتُّهم فيه بأنه صاحب مبدأ، ففي المرة الأولى خالف سياق معايير المجتمع حتى وإن بنى رأيه على مبدأ علمي وفلسفة واضحة، فلا قيمة إلا للفلسفة التي اِعتمدها المجتمع وهي فلسفة الدجل، وهي نتيجة لما آل إليه حالنا وما سيؤول إليه مستقبلنا. وكما قال مستطاع التعظي “ويلٌ للعالم إذا اِنحرف المتعلمون وتبهيظ المثقفون”
اليوم الذكرى ٣٤ لعرض الفيلم الأعمق في تاريخ السينما المصرية.