د.نورالدين سعيد
هسهسة اللغة التشكيلية
د. نورالدين سعيد
في شيفرة رسالة، لشكل مختلف في الاسلوب وممتلئ في المعنى، ومتفرد في التعبير، تيقنت هنا إلى الاشتغال على تفاصيل، لكسر روتيني في الرسم الزيتي، وثورة على البنى التشكيلية شكلاً ومضموناً، كسر، أراه توجيهي، تربوي من فنان عميق الرؤية حد الترف، المبدع بعمق رؤية مختلفة على السائد، التشكيلي الليبي، محمد البارودي، يستعين بخليط من ثلاثة مدارس: “تعبيرية” مع بعض الجنوح ل_”السريالية” ثم “الواقعية” والتي هي الأصل في أسلوبه باستمرار، أكثر من رأيته يفكر من خلال الواقعية، ويطير بها من بلادة الفوتوغراف، إلى التاريخ والإبداع، هو هذا الفنان، فنان يغمس ريشته بأكبر قدر في الضباب، او لنقل في سحابة ستمطر بعد قليل على مكان يعشقه، ثم يقوم بخلطها باللون، ويبدأ في رسم خطوطه، البارودي لا يتوقف عند حدود التقانات الفنية التشكيلية ومعرفة مدارسها وآلياتها، لكنه وعلى ما يبدو، فنان يغرق عقله في القراءات من حين لآخر، ويخاف من الانثروبولوجيا وعلم الإجتماع.. ويرى أن تكتسح الحداثة (الأصيلة) المتوشحة بالتراث، أقصى مدى من اللوحة التشكيلة، ثم ينغمس في حدود من التأويل الخاص بأسلوبه، إنه يعود بذاكرة مشحونة بالمكان ومنصهرة فيه، ليرينا حياة متكاملة في لوحة، او بالأحرى في لقطة (عامة قريبة) F.s.s اولنقل لقطة كاملة، في لغة تشكيلية سينمائية، تلك التي من خواصها، إظهار كل شيء في حدود أضيق من أن تظهره، ولقد تربت اللقطات الخاصة بالسينما على اللوحات التشكيلية منذ عشرينيات القرن الماضي، عند سيرجي ميلوزوفيتش إيزينشتين، وكذا عند بيير باولو بازوليني، وفيديريكو فيليني، الثلاثة مخرجين الذين تبنوا الاسلوب الاشتراكي، بأقل عناء ممكن من التفكير، لكننا لسنا أمام لقطة سينمائية نحن امام لوحة تشكيلية تجنح لان تكون لقطة سينمائية عند هذا الفنان، وهذا ايضاً يحسب، حسب رؤيتي، إلى أسلوبه. ففي الوقت الذي تستعير فيه السينما التشكيل من اللوحة، يعكس البارودي القاعدة ليتحصل من السينما على عكس ماتريده، الحركة والتكوين، والأبعاد، سنلاحظ، ان البارودي يطرح خمسة مستويات من المنظر لخمسة زوايا نظر، في مكان واحد فقط، وهو الخيمة بطبيعة الحال، الخيمة التي جاءت وبكل بساطة معبرة عن كل شيء. وهي الجامع الرئيس لحياة أكثر من ثمانين في المائة من الليبيين في فترة من الفترات، امتدت إلى منتصف القرن العشرين المنصرم عند بعض المناطق من المجتمعات والقبائل التي بقت على حالها رعوية بدوية، لكنها هنا (الخيمة) ليست هي المقصودة، بقدر ما أريد لها أن تكون محض أيقونة إجتماع، للدلالة لا اكثر، مركزاً من خلالها على الجانب الوجداني لإظهار أربعة “مغازي” ترتكز عليها الدلالات متمثلة في الإيحاء، الرمز، الأثر، ثم العلامة التي تسيطر على كل دلالات المكان، في الداخل وكذا في الخارج، حين نرى في مركز الصورة بالضبط، للقطة تتحرك بكل معنى الكلمة وإن رأيناها ساكنة بضرورة الفن التشكيلي، نرى رَجُلا أبيض يقوم بسكب الماء ليغسل الرجل الاسمر يديه، في عملية لكسر الجانب الانثروبولوجي لحياة تعج بالإنسانية، وعلى يمين اللقطة المركزية لعملية غسيل اليدين، نرى إناء “قصعة” الاكل الشعبية الليبية “البازين” بشكلها المتدخل فيه من قبل الفنان، ومجموعة من الرجال الجالسين، تنتظر أن يكمل الأسمر غسل يديه، لأنه سيكون هو آخر من ينتظرون، بطريقة تنم على احترام المائدة، في تقليعة ثقافة مكتملة، خلفهم بالضبط، نرى السجق “الرواق” وقد مال إلى الأسفل قليلاً، لنرى من خلال كشفه، مجموعة من النسوة، يتحلقن كذلك على ذات النوع من الاكل الشعبي، وإن لم يكن ثمة ضرورة لإظهاره، ثم السيدة التي لا يظهر من ملامحها سوى يدها التي تقلب ماتبقى في القدر، ثم تكتمل اللوحة بما خلف الخيمة، الشكل الذي يغلق الكادر تماماً، في الخارج، جمل يحمل على ظهره هودج، يقف منتصباً، منتظراً عروسه التي سيقلها بعد العشاء، في ليلة مقمرة، ينعكس ضؤها، ليزيح الضباب على المكان الآمن المتحضر بطريقته المحض محلية، في مشهد يعج بالحركة وبالصوت، وبكامل مكملاته، موحياً بزخم يترجم كل شيء، بين اربعة حدود متشظية على بلد بأسره، يكتمل فيه كل الذي لم تظهره اللوحة.. تميز التشكيل الليبي وخروجه في وقت مبكر إلى العالمية، لاحظته هنا، وإن يكن درايتي محدودة على الزمن الذي أنجزت فيه اللوحة بهذه البراعة غير المعهودة..
د. نورالدين سعيد