تكتظ شوارع المدينة بالمارّة وأصوات السيارات وضجيج الباعة المتجولين وأصحاب المقاهي المتناثرة على جوانب الطرقات ، ويستمر هذا المشهد حتى ساعات متأخرة من الليل لا بل قد يمتد كثير من الأحيان ليصاحب شروق الشمس
إنه مشهد اعتيادي للغاية في كثير من العواصم العربية مثل دمشق والقاهرة وبيروت ويرافق الكثير من ذكرياتنا لا بل ينطبع على جدران الذاكرة كوشم ابدي لا يزول .لكن أمرا واحدا قد يشوب ذكريات الصبى السعيدة الا وهو كمية النفايات والمهملات الملقاة على الارض بطول المدينة وعرضها. ومع أنك قد تجد الكثير من اللافتات التي تقول ” النظافة من الإيمان” لكن الواقع يعكس حقيقة مختلفة تماما. والسؤال الذي ظل يؤرقني و يحيرني فلا اجد له تفسيرا عند أحد، هو كيف يمكن لمنازل السكان أن تكون نظيفة وأنيقة وتنم عن إحساس عالي بالجمال والترتيب بينما شوارع مدينتهم مكتظة بالأوساخ والمهملات؟ ما هو سر هذا التناق
لقد وجدت اجابة على جزء من اجزاء المشكلة عند الباحث وعالم النفس و الاجتماع الشهير ” فيليب زيمباردو”
تقول الورقة البحثية عن تجربة زيمباردو بأنه اتى بسيارتين متشابهتين تماما و بدون لوحات ، فوضع الاولى في الحي الفقير ووضع الثانية في الحي اليسير و ترك كلا السيارتين مفتوحا و بدون حسيب او رقيب.
في بداية الأمر اقترب الناس من السيارة في حي الفقراء و عندما اكتشفوا أنها مفتوحة و منسية بدأوا العبث بها و سرقة قطعها و تحطيم ما تبقى منها فأصبحت العربة بعد بضعة أيام تالفة بشكل كامل . أما السيارة الثانية فلم يقترب منها احد في البداية ولكن المسألة تغيرت بعد أن قام زيمباردو بكسر إحدى نوافذها ، فأصابها بعد عدة ايام ما أصاب شبيهاتها في الحي الفقير. وقد تم تكرار التجربة من قبل علماء اجتماع آخرين في ثمانينيات القرن المنصرم و كانت النتائج ذاتها تتطابق في كل مرة. و خلاصة التجربة ان وجود نافذة مكسورة شجّع الناس على التخريب و النهب حتى وان كانت البيئة تنتمي الى طبقات المجتمع المكتفية اقتصاديا. مما يعني ان وجود مشكلة صغيرة تمّ إهمالها وعدم معالجتها كانت حافزاً لحدوث مشاكل اكبر و سلوكيات غير منضبطة أدت إلى تفاقم المشكلة الرئيسية وتعاظمها بحيث يصبح حلها أكثر صعوبة وأكثر تكلفة
لنبسّط الأمر على الشكل التالي ، تخيّل انك تمسك بيدك بجريدة او علبة سجائر فاحتمال ان ترميها على الارض اذا كانت الارض نظيفة أصغر بكثير من احتمال رميها لو كان الشارع متسخاً سلفاً. إن الإهمال و عدم تصحيح المشاكل الصغيرة يبعث رسالة خفيّة مفادها ” إفعل ما تشاء لا أحد يهتم لهذا المكان ” . إن اهمال معالجة أية مشكلة مهما صغر او كبر حجمها في بيئة معينة ، سيجعل الناس يتعاملون مع هذه البيئة بشيء من اللامبالاة و سيكون تفاعلهم معها سلبيا للغاية
أما في البيئة النظيفة والأكثر تنظيماً و ترتيباً فسيكون الأمر معكوساً تماما اذا سيتعامل الناس معها بمنتهى الإيجابية ويحافظون عليها و يحمونها
في الواقع ان الكثير من القضايا الصحية والبيئية والاجتماعية التي نواجهها حاليا هي ليست سوى نتاج تراكمات أفعال وسلوكيات خاطئة تم تجاهلها وعدم معالجتها في الماضي فأنتجت معضلات معقدة يصعب حلها. والحقيقة ان الاجيال تتعلم من أفعال من سبقوهم أكثر بكثير من تعلمهم من الحكم و الاقوال و النصائح الشفهية المجردة لذلك دعونا نقود الحياة بشكل صحيح كي نترك لابنائنا واحفادنا عالماً نضيفاً يملؤه الجمال