نورهان محمود راشد
ولدت بمنتصف التسعينات، في يوليو من عام 1995، وبالرغم من صخب ذاك العام بالأحداث، إلا أن يوليو شهد براحًا، ربما ليتسع لحدث ميلادي. وهو تفسير اِنفردت به وصدقته – ولا زلت – لكن الأحداث العظيمة تأتي لها توابع، وأستدل هنا على الحدث الذي تبع ميلادي بأقل من شهرين، وهو عرض فيلم “اِمرأة هزت عرش مصر”، والذي لسنوات آمنت أنه علامة على تغيير ما سأحدثه، لا أدري متى ولا كيف، لكنه قادم يومًا ما. وهي علامة ربما تثير داخلك بركان ضحك لن يتوقف؛ لكنها تبرير كان لابد من الإشارة إليه لتستوعب معي كيف تشكلت دوافعي وتبريراتي لما سيحدث فيما بعد، حتى يومنا هذا
بمنتصف سبتمبر من العام 2001، التحقت بالفصول التمهيدية (KG1) ، لأشق طريقي في الحياة متسلحة بالعلم، كطفلة لأسرة متوسطة. كان النظام المتبع وقتها بالمدرسة هو تقسيم الأطفال إلى فصلين، أول وثاني، والدارج أن يحوي الفصل أول (A)المتفوقين، و الثاني (B) المتوسطين، لكن لم يكن هناك وقت لتقديم أي اِختبارات، فقررت الإدارة الاستعانة بعنصري الطول والحجم في التقسيم، وبناء عليه تم وضعي بالفصل الثاني (CLASS “B”) وهي المرة الأولى التي أواجه فيها معضلة قدرية شهيرة، مفادها أن الإنسان لا يختار لونه ولا بلده ولا حجمه ولا شكله ولا أبويه و لا حتى الفصل المنسوب إليه بالرغم من كونه سيقض ما لا يقل عن ست إلى تسع سنوات يجابه نتائج ما فُرض عليه يوما و بالمستقبل البعيد سيشكلون معيارًا لاتجاهات وطرق سيسلكها طوال حياته. وحتى يومنا هذا، وعلى الرغم من اِتِّجاه خطواتي بثقة لتقترب من أولى عتبات الثلاثين، لا زلت أواجه أسئلة هيئتي القدرية من عينة: ” أنتي في تانية إعدادي يا حبيبتي؟ ” لكن رؤيتي المحدودة لم تكن تتسع وقتها لتدرك أن عام 2001 كان بداية لنظرة سيفرضها على العالم بأكمله ليس على شخصي فقط بل على أجيال متتابعة بعضها ولد بعد الحدث لكنه بقي يحمل الوصمة ذاتها
كان العالم وقتها مشغول بحادثة برج التجارة العالمي، الحادثة التي اِمتدت آثارها على العالم أجمع والمجتمعات العربية والإسلامية خاصة، والتي لم تنجو بدورها من مروجي ثقافة الـ”درابندوخ”، الذين بنوا تصوراتهم حول الحادثة، وربطوا بين ورقة العشرين دولار واِنهيار الاقتصاد الأمريكي، واِسم أسامة بن لادن، مؤكدين أنَّ الأيام القادمة ستكون لنا بعدما يتفوق الاقتصاد المصري على الاقتصاد الأمريكي بفضل الخالق، الذي سيمحق الكافرين وينجي المؤمنين، وهي معتقدات لو اِستخدمناها كمقياس على الوضع الراهن سيتأكد لنا أننا كنا نحن الكافرون
أما بالنسبة لي وزملائي بالـ (class) لم نكن نهتم بالشأن الخارجي، بل اِنصب اِهتمامنا على الشأن الداخلي، فبعدما تم حسم العراك الذي كان يحدث بعد اليوم الدراسي بين (class A) و(class B) والذي كان دائمًا ما يُحسم لصالحهم، لأسباب تم ذكرها بالأعلى، ما دفعنا وقتها إلى اللجوء للحلول السلمية، كإبلاغ المعلمة بأي اِعتداء يحدث من قبل فصل “العمالقة”، والتدريب على فنون المناورات، التي ساعدنا فيها وجود بابين لفصلنا، فكنا نُسرع بالركض من الباب الثاني، حين يبدأ الهجوم من الباب الأول، ونظل ندور داخل حلقة دائرية لا يقطعها سوى قدوم إحدى المشرفات أو الدادات، هذا بخلاف الخطط التكتيكية التي تشمل الحصول على درجات أعلى لإثبات جدارتنا عند ذوي السلطة، وتجاوز التقييم المُسبق الظالم لنا
مرت ثلاثة أعوام، وبدأت نتائج حادثة برج التجارة تتبلور وتتضح، فشهدنا عنصرية ونزاعات ورعبًا عامًا يسيطر على المشهد في أوروبا عامة، فضلاً عن أمريكا، وانتشرت مصطلحات على غرار “الإسلاموفوبيا”، وبدأت المحاكمات تكشف عن أسماء وشخصيات المُدبِرين، الذين للمصادفة قُتل معظمهم في الحادثة ذاتها. وبالطبع كان محيطي مُهتم بمتابعة الأحداث، ليس لدرجة التفاعل والمناقشة، لكنه نوع من المتابعة يُجنِبك فغر الفاه حين يتحدث زملائك بالعمل عن الأحداث العالمية، متابعة لا يتخللها أي وجهة نظر تتكون إلا تلك الأكثر ترددًا – أي وجهة النظر السائدة – ولأنه لا يليق بامرأة ستهز عرش مصر أن تكون من العوام – هذا ما اِعتقدته بالفنانة نادية الجندي قدوتي وقتها والتي شهدت عذابًا من الموساد بأفلامها يكفي لتحرير أرض فلسطين – عزمت من وقتها على خلق ذكريات لي مع الأحداث، تلك الذكريات كانت سببًا في اِختلاط واقعي مع خيالي، فمثلاً حين يروي لي أحدهم تفاصيل حدث ما، أقسم بأني شاهدته، والآن أقع في شك من أمري، هل رأيته حقًا أم صاغه خيالي من صور تجمعت برأسي وأحاديث اِلتقطتها أذني دون جهد يذكر، مع مراعاة إيماني العميق بكون الفنانة نادية الجندي واحدة من الفدائيين المتخفين بين الفنانين، وكلمة السر الخاصة بها “خالتي بتسلم عليك”، وهي كلمة سر يعرفها الوطن العربي بأكمله؛ لكنها لم تفقد سريتها أبدًا، وهذا ما جعلني أتوخى الحيطة في التعامل مع المحيطين بي، فبالطبع تم تدريبها منذ الصغر لتكون ما هي عليه الآن، وهي حيطة نتج عنها إلتزامي بكلمة سر قبل توجيه حديث لأحد زملائي، ولا داعي لذكر ما هي وأظنها باتت متوقعة
حين اِتَّجه اِهتمام المحيطين لحدث أخر، ألا وهو إلقاء القبض على صدام حسين، في 13 ديسمبر من عام 2003، إهتز عرش نادية الجندي بداخلي، فقد كان هذا الحدث ما كشف لي الخيط الرفيع الفاصل بين مبالغة السينما وحدود واقعنا المرير، لكنه أيضًا وضعني على مطلع إدراك حقيقة موقعي من العالم
يَتبع
اللوحة من تصميم الكاتبة
غرفة 19
- إنسـان فيتـروفيـوس- للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1487
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
مقال رائع كالعادة ،
وربط عميق للاحداث بين احلام شباب عربي عاصر احداث جليلة وبين واقع مرير