بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي
أحيانًا, يصعب على الناقد الاختيار, بدرجة التفاضل, بين عدد من الأعمال الأدبية, والسبب في ذلك هو قوة العمل الأدبي وبروز المسلّمات الأدبية على المسلّمات العادية في العمل, فحين نختار كتابًا أو عملًا أدبيًّا للنقد الذرائعي نتعب كثيرًا في عملية الاختيار, لأننا نؤكد في الذرائعية على مبدأ دراسة النص الرصين, ونعني بذلك أننا نختار العمل الأدبي الذي يأخذ عمقًا فكريًّا متشعّبًا باسترتيجيات ورسائل تسكن عقلية الكاتب فيبثّها إلى المجتمع دروسًا إنسانية فكرية, فيقوم الناقد بملاحقة هذه الرسائل والتركيز والتنظيم للتدرّج المرسل باتجاه المجتمع بشروط
1- أخلاقية 2- فكرية 3- ثقافية 4- علمية 5- أخرى
وبذلك يكتب الناقد النصّ مرّة أخرى ليؤكد فائدة الإرسال من قبل الكاتب لاتجاه المجتمع, ليقوّي عُرى الاتصال بين الاثنين, وهذا الاتصال يُعدُّ اتفاقًا بين المرسل والمستلم, وهو المؤشّر الحقيقي لتميّز كاتب عن آخر في عيون المجتمع الواسعة, فالأدب عرّاب للمجتمع, يفرش عباءته لتسلية المجتمع, لينتج من خلال التسلية دروسًا راقية تفيد هذا المجتمع, لذلك يعتبر الأدب الرصين مدرسة أخلاقية تعيش معنا, في بيوتنا, وعلى رفوف مكتباتنا, وعلى شاشات أجهزتنا المتلفزة, وإلى هذا الأدب الرصين تنتمي هذه الرواية( هذا جناه الأدب على أحلام ) للأديبة نهى عاصم, وهي رواية اجتماعية ثقافية نفسية
وبناءً على التقدّم المعرفي المتنوّع في هذه الرواية, قرّرتُ أن أدرس فيها ما زاد من إبداع, لذلك اخترت استراتيجية الاستقطاع لرصد الإبداع الجديد فقط, وعدم إعادة الأمور المتكرّرة, والتي أُعيدت كثيرًا في الدراسات النقدية, من ناحية أن النقد الذرائعي مبدئي, لا يقحم نفسه في تحليل المُحلَّل والسرد المهدور, لذا يركز على ما زاد أو نقص, ليقيّم ما زاد من إبداع, ويقوّم ما نقص, بأسلوب جديد
• البؤرة الفكرية الثابتة
من عرِف الأديبة نهى عاصم- وهي خريجة كلية الآداب قسم وثائق ومكتبات, دبلومة ترجمة للغة الإنجليزية, متطوّعة بمكتبة طه حسين بمكتبة الإسكندرية, وعضو إتيليه الإسكندرية, ومختبر السرديات بمكتبة الاسكندرية- ومن قرأ أعمالها المنشورة- روايات مثل: أمل حياتي, رسائل نادية, يناديها روح, ومجموعات قصصية مثل : “حواديت يا ولاد” قصص أطفال, ” هزمتني زوجتي” وغيرها, أعمال مشتركة- سيجد جليًّا أنها كاتبة مهمومة بالجانب الاجتماعي والإصلاحي لمجتمعها المصري بالخصوص, والإنساني بالعموم, تعمل عملَ القوى الناعمة على إصلاح ما أفسدته قوى الشر والفساد في صراعها مع قوى الخير والقيم والأخلاق الإنسانية النبيلة, وهذا يُحسَب لنهى عاصم كاستراتيجية تُوسم بها أعمالها
وفي هذا العمل, تنتصر للعلم والمعرفة في مواجهة التجهيل والتفاهة, تقرأ, وتدعونا لقراءة ما قرأت, وتكتب وتدعونا, أيضًا لقراءة ما كتبت, وزادت, في هذا العمل, أنها تحاول أن تصلح ما فسدَ فيما قرأته, فتعيد بناء التشابك السردي الدرامي لبعض الأعمال الروائية المعروفة, بما تراه مناسبًا لبناء أسس ظواهر الجمال والحب والألفة والفرح, بدلًا عن درامية الحزن والكراهية والشتات والقبح, التي يرتئيها الكتّاب ويخطّونها على خريطة أعمالهم الدرامية, لنهى عاصم مقدرتها على جعل كل النهايات سعيدة, كما لها القدرة على تسطيح الصراع, بما يشبه الواقع, دون أن تمسح أو تنفي وجوده, فالصراع عندها داخلي ذاتي تعكسه نحو الخارج بسلوك مضطرب, لكنه إيجابي لأنها تريد إصلاحه, عبر عرضه على طاولة الفحص الطبي النفسي والاجتماعي إقرارًا به كاضطراب, ورغبة بالعلاج والتعافي والشفاء, وهذه هي ” الحقيقة الحيوية التي يروم الإنسان بلوغها حول السلوك الإنساني, الأمر الذي يجب الحصول عليه أو الوصول إليه من خلال الأدب, سواء كان سلبًا أم إيجابًا”
أتحدى من قرأ هذا العمل أن يجد فيه خروجًا عن الأخلاقية الإنسانية أو القيم والمبادئ النبيلة والخيّرة, بل هي دعوة واضحة وصريحة للعودة إلى ما خسرناه من قيم خيّرة في معاركنا مع الحياة, ترسلها لنا عبر أحداث علاقة رومانسية عفيفة تنشأ بين البطلة وطبيبها النفسي
• المستوى اللساني والجمالي
Linguistic & Aesthetic Level
وظّفت نهى عاصم ثقافتها الشاملة في العديد من المعارف والفنون المختلفة في عملها الأدبي هذا, بما يخدم سياقات العمل فنيًّا وطبيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وسينمائيًّا وحضاريًّا وأدبيًّا, وهناك الكثير من الشواهد التي يمكننا اقتباسها من متن العمل, أنصح المتلقي بالوقوف عليها, والاطلاع على الأعمال الإبداعية للعديد من الأدباء المعاصرين, التي اقتبستْها كشواهد, إضافة إلى الأعمال الفنية الموسيقية والغنائية والتشكيلية
كما أدخلتْ العديد من الألفاظ المعصرنة, وأوردتها كما هي, وإن كنت أفضل أن تضعها بين قوسين, لكنها مفهومة, بل باتت معروفة
غلب على العمل استخدام الأسلوب السردي الأدبي الإنشائي البسيط الذي يقابل أسلوب السهل الممتنع في الشعر, إضافة إلى الأسلوب التقريري الذي كان لا بد من إيراده مع الكلام المعلوماتي, ولم يخلُ العمل من الأسلوب الفكاهي الذي عكسته الحوارات الخارجية, الحيّة أوالمكتوبة عبر تقنية ( الشات) الالكترونية على حدّ سواء
• المستوى المتحرّك
Dynamic Level
ومن الفصل الأول ( فصل الاستهلال) قدّمت شخصيات العمل التي ستتولى السرد, أحلام عزيز, د. صلاح الراعي, وشخصية ثالثة هي الضابط حازم محمد علي, وحدّدت لنا طريقة سرد الأحداث التي ستعتمدها, طريقة الترجمة الذاتية التي تعطي لكل شخصية مساحتها على خارطة السرد, كما حدّدت لنا طريقة عرض الشخصيات, واعتمدت الطريقة التمثيلية التي تتيح لنا فيها التعرّف على أبعاد الشخصيات من خلال حديثها عن نفسها أو من خلال حديث الغير عنها, بإقصاء ونفي تام لأي سارد عليم
إذًا, استهلال زمكاني وصفي حدثي مشوّق بدأت به الكاتبة روايتها, وعليه مرّرت حبل التشويق من بعد العنوان, لتبدأ, من الاستهلال, بناء الحدث السردي بثلاثة عناصر منه, هي الزمكانية والتشويق والتعبير, وبعده تضيف العاطفة بشكل تدريجي إلى الحبكة السردية
الحادية عشرة مساء
بأقدام مرتجفة في ليلة شتاء عاصفة, مشيتُ إلى قسم سيدي جابر ودخلته,……بأعين زائغة قلت له: – قتلته
المضامين
عرضت الكاتبة للعديد من المضامين والقضايا, منها الأسرية الاجتماعية, كسفر العائلات للعمل خارج الوطن, وهجرة الأبناء واستقرارهم خارج الوطن أيضًا, وما يترتب على ذلك من أوجاع نفسية وغربة واغتراب بين أفراد الأسرة الواحدة, تضحية الأخت الكبرى التي يُناط بها مهمة تربية اخوتها بعد فقد الوالدين, جحود الأخوة, والصدمات العاطفية, الهروب من الواقع نحو القراءة والكتابة بقصد الانفصال عن الواقع, تسلّط الأهل على الأبناء بموضوع اختار الشريك في الزواج, الطب النفسي كحلٍّ لمعالجة الاضطرابات النفسية
التقنيات السردية
استطاعت الأديبة نهى عاصم أن تقدّم المشهد الحدثي بتقنية مثيرة للناقد, وهي تقنية ازدواجية الحدث المكتوب أو المقروء مع الحدث الواقعي. أي الازدواج الحدثي
إضافة إلى التقنيات السردية المعاصرة الأخرى, كالحوارات والأحلام ……الخ
• المستوى النفسي
Psychological Level
انطلقت الكاتبة من ظاهرة نفسية, وهي ظاهرة الاندماج أو ” الانتقال” كمصطلح, وتعريفها حسب ميلاني جرين وتيم بروك, هي حالة من الاستغراق في القصة, ويمكن أن يشمل الظاهرة التي يسميها تشيكسينتميهاي ” التدفق” ويقصد بها الاندماج التام فيما يفعله المرء, وتشمل أيضًا الانتباه والتصوّر والمشاعر, وقد وجد جرين وبروك أن درجة انتقال القرّاء داخل العالم السردي تنبئ بدرجة التوافق بين معتقدات القرّاء وما تحويه القصة من معتقدات وتقويمات, وأن بعض الناس أكثر استعدادًا للانتقال من غيرهم, وأن السرد أكثر تأثيرًا من أي جدل بلاغي بحت يحمل نفس المعلومات, وأن الدرجات العالية من الانتقال وتغير وجهات النظر والمواقف تحدث بسبب قدرة النص على تحريك مشاعر المشاركة الوجدانية مع الناس ( شخصيات القصة)
وهنا ننتقل إلى ظاهرة أخرى credulous, وهي تعني الاستعداد لتصديق كل شيء, وقد أصيب بها عطيل, الشخصية الشكسبيرية. وأحلام, بطلة العمل, والتي تمثّل بالتوازي القارئة النهمة نهى عاصم, حدثت معها ازدواجية بين المتخيّل والواقع, اندمجت بالحدث القصصي, فحصل لديها حالة تماثل بين الواقع والخيال, كحالة الممثّل عندما يندمج بالشخصية فيذوب فيها, ويحتاج زمنًا للخروج منها
ومن خلال هذا الاندماج يمكن استنباط أربعة موضوعات, وهي : استكشاف عقول الآخرين, وتحري العلاقات, وديناميات التفاعل داخل الجماعات, ومواجهة مشكلات الذات
وظاهرة الانتقال تختلف عن ظاهرة التقمص التي تكون بكامل الإدراك, بينما الانتقال يكون غير مدرك, وهي أيضًا مختلفة عن” اضطراب تعدّد الشخصيات (الانفصام), وهو عملية عقلية ينتج عنها عدم وجود اتصال في الأفكار والذكريات والمشاعر, وإحساس الشخص بالهوية” , ففي الانفصام تنفصل الشخصيتان الذاتية والمتخيلة تمامًا, أما في حالة الاندماج أو الانتقال, فتندمج الشخصيتان الذاتية والمُتخيَّلة في شخصية واحدة بشكل متماثل, فتأخذ الإنجاز من الشخصية الثانية ( المُتخيَّلة), وهذه الحالة تكون كارثية لو كان الاندماج مع شخصية سلبية كشخصية قاتل أو منتحر, أو شخصية خيالية كشخصية سوبر مان
وهذه العملية النفسية التي استخدمتها الكاتبة نهى عاصم ذرائعيًّا هي تقنية جديدة, استطاعت استخدامها ببراعة وحرص شديد, متجنّبةً الوقوع في أي خطأ علمي نفسي, وهذا ما يجعلنا نؤكد على دخول “تكنولوجية الكلمة” حيّز اللغة السردية تحديدًا
تناصّت نهى عاصم في هذا العمل الروائي مع تجربتها الحياتية, كقارئة وكاتبة, كما تناصّت مع أعمال إبداعية لمبدعين آخرين, منها مسلسل (حول غرفتي) قصة وسيناريو وحوار وجيه رضوان, إخراج أنطوان ريمي, بطولة هند أبي اللمع – عبد المجيد مجذوب
وحمولة الكلمة لدى نهى عاصم: حمولة معرفية غنية تعكس قراءاتها الغزيرة وثقافتها العميقة, لأن مفردتها الواحدة تعكس طيفًا من الألوان, فنجد فيها
1- الفلسفة, 2- السيكولوجية, 3- الجمال, 4- الإيحاء, 5 – الرمز
ومع هذه الحمولة المشدّدة تسلط ضغوطًا خارجية إضافية على كلماتها المحمّلة, وهذه الضغوطات هي تشديد للسياق اللغوي في التراكمات الجمالية في جملتها السردية, فهي تراعي الضغط الاجتماعي, والضغط البيئي والضغط اللغوي, والضغط البلاغي, والضغط النفسي, و…..أخرى, منها أيضًا ضغوط مفرداتية يتأتّى منها العمق السردي النقدي, وهو ملاحقة علمية لكتابة النص مرّة أخرى نقديًا
هوامش
– الذرائعية والتحليل النقدي العلمي- تأليف عبد الرزاق عوده الغالبي- دار مداد للطباعة والنشر – العراق – كربلاء- الطبعة الأولى 2022 – ص 162
– الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية – تأليف/ عبد الرزاق عوده الغالبي- تطبيق/ د. عبير خالد- دار النابغة للنشر والتوزيع- طنطا- ط1-2019
– الذرائعية والعقل- تأليف عبد الرزاق عوده الغالبي – الدراسات التطبيقية الناقدة د. عبير خالد يحيي- إصدار الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق- ط1-2021
– كما الأحلام: علم النفس في القصص الخيالية – الفصل السابع- بحث في موقع مؤسسة هنداوي www.hindawi.org -معلومات مميزة حول الفرق بين الفصام وتعدد الشخصيات (الانفصام) تعرف عليها الآن- موقع hopeeg.com
-القص الموجز المكثّف ( ق. م. م)- تنظير ونصوص وتحليل نقدي ذرائعي- تأليف : د. عبير خالد يحيي_ عبد الرزاق عوده الغالبي دار الأدهم للنشر والتوزيع- القاهرة – الطبعة الأولى 2023- ص 8