أ . د . محمد عبدالرضا شياع
أستاذ الأدب المقارن وتحليل النص الموسومة “تمركُزُ الدّالِ وتعددُ المدلولات *
أ . د . محمد عبدالرضا شياع
قراءة نقدية في شعر سعد ياسين يوسف ” في جريدة الدستور البغدادية في عددها ( ٥٦١٩) الصادر في يوم الأثنين ١٠-٧-٢٠٢٣ وعلى صفحة فنارات شكراً للمبدع منذر عبد الحر على جمال النشر والإخراج وفي ما يأتي نص القراءة
لا أريد القول إن الشعر قد حظي باهتمام الناس منذ استوقف صوتُ الكلماتِ الإنسانَ مأخوذاً بإيقاع ما سمع، لأن الحُظْوَةَ تأتي من الآخر لتجعل الذات موضع اهتمام، إنما أودّ التصريح بأن الشعر هو الذي فرض وجوده متميّزاً، عبر العصور البعيدة، عن الأنواع الإبداعية الأخرى، من دون الانتقاص من وجودها اللاحق زمنياً، الشعر حدث يهز المتلقي سواء أكان هذا المتلقي ناصتاً أم قارئاً، وفي كلتا الحالتين يتطلب الإدراكُ الإنصات، جاءت هذه السلطة كونُ جوارح الشاعرِ كلّها تسهم في إنتاج الشعر، وأراه في محجّات الاستقبال كذلك، ليحقق ولادته المتواصلة، وأعني، هنا، الإبداع الذي يحقّب في الزمن الخطّي، ويترك أثره في الزمن الرأسي فاعلاً ومتفاعلاً، حتى يضحي إنتاجيةً متعددةَ الرؤوس والدلالات، تتناسل في صيرورته الدوالُ البانيةُ له مثلَ ضوءٍ يتصاعد منداحاً ولا تنتهي دوائرُهُ وإن غاصت في جبةِ الليل، الليل الذي بات روحاً تحتضنُ القصيدة، تبددُ وحشةَ الوحدةِ والعزلةِ، وتطردُ الخوفَ والرهبةَ، متصالحاً (الليلُ) وقلقَ النار التي يتدفق من بين شقوقها ماءُ الشعر، نتوضّأ به، نحن العشاقَ، ونحجُّ سفراً لمحراب القصيدة، فهناك هناك تنوجد اللغة بين ضفتي القراءة والكتابة، فعلان متلازمان لإنجاز غيرِ المألوفِ ولا المعتاد، هو الإدهاش الحكائيُّ لولادة القصيدة المحمّلة بالصور وبالإيحاء وبالضوء وبالإيقاع، الإيقاع الذي رأه هنري ميشونيك الدال الأكبر في هذا البناء الأخّاذ، الذي جعل بعض الشعراء يرون أنفسهم أنبياء، بهم حلّت نفحةٌ علويّةٌ، فقالوا
هو الإحساس العظيم بالمجد، ولعلّ هذا الذي أنطق غاستون باشلار، من منا لا يحلم بأن يكون شاعراً؟ وهو رائد الفلسفة العلمية المعاصرة، المنجرفُ بوعي القارئ المكتشفِ ظاهراتيةِ هوسرل، فذهب لعالمه معتذراً ومتبنياً؛ ليمنحنا ما ننبهر به من ظاهراتية الوجود؛ بعين هذه الظاهرية أؤطّرُ الشعر بأضلاع القراءة المتدفقة فوضى وانضباطاً، تأطيرَ الأضلاع للقلب، فهناك تتفلت المعاني الشعرية معانقة الصمت والفراغ… ولإدراك أبعاد الصمت فلنقرأ (عالم الصمت) لماكس بيكارد، ولإدراك ماهية الفراغ فلنصاحب لاو تسو زعيم الديانة الطاوية، ثم نعود إلى القصيدة الشعرية ونبحر فيها
لقد أعلن الشعر عن مركزية الإبداع فيه، فتناسلت منه أنواع الإبداع الأخرى، المسرحُ، الموسيقى، اللوحةُ، وأخذتهُ الروايةُ بين كفيها، لتغرينا بلذة الكلماتِ أصواتاً لهسيس اللغة، غوايةٌ يقدمها الوعي العالي بين يدي الحكاية، لنبتسم ونحن نقرأ، آه لجرح الرؤى المبتلة بنارِ الكلمات، هكذا كان لزاماً أن يكون الواحد والعشرون من شهر مارس يوماً عالمياً للشعر، أعلنته في دورتها الثلاثين العام 1999 في مدينة الأضواء باريس، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) دعماً للتنوع اللغوي، أعني تمجيد اللغة، وحماية المهددة بالاندثار، ولكن كيف؟ الجواب: من خلال التعبير الشعري طبعاً
وها نحن اليوم نحتفي بواحد من شعراء العربية، اللغة الضاربة في جذور مجدها، الواقفة مثل شجرة تعاند العواصف وتنتصر عليها، نحتفي بشاعر الأشجار سعد ياسين يوسف، بدعوة مؤثّلة بالشعر وبالمحبّة من لدن الصديق الأستاذ الدكتور وسام البكري مدير منصة آداب المستنصرية الدولية المحترم، ولقد لبيت الدعوة اعتزازاً بالزميل الدكتور البكري، وبالمؤسسة العريقة التي يمثلها، وبالصديق الشاعر سعد ياسين يوسف، الذي له منزلةُ البصرِ في العين، شاعراً وصديقاً، لقد قدّمتُ الشعر على الصداقة التي لا أكفّ عن الاحتفاء بها، لأنني أقيس شعرية الشاعر بقصيدته، مَن يأخذنا إلى مَن؟ لقد عرفت الشاعر سعد ياسين يوسف بقصائده التي أخذتنا إليه، فوجدته عبر القصيد شاعر الأشجار بامتياز الشعر، منذ الشجرة الأولى/ شجرة المعرفة التي شيّدتْ قصيدتَهُ لآخر قصيدةٍ قرأتُها هي شجرةُ النعاس، سعد ياسين يوسف خاض مغامرة الكتابة الشعرية ممسكاً بالشجرة رمزاً، وهذا الرمزُ ضوءٌ وظلمة، ضوء عندما يتمكّنُ الشاعرُ منه، فيمسي نسغاً صاعداً وأنفاسَ الذات الكاتبة، يسهمُ في إنجازِ القصيدة دالاً متحولاً بحسب تجلّيات حرارة السؤال الشعري، فهو كلٌّ متكاملٌ من الصورة الكليّانية للنص، وإن حضر في صيرورة الصور الجزئية، وهو، في الآن، ذاته ظلمة أعني (الشجرة رمزاً) عندما يستوعبُ الشاعرَ ويستعبدُهُ، فيكونُ دالاً مستجلَباً وعنصراً حضر قسراً، وهذا ما تخلّص منه سعد ياسين يوسف، فظلت الشجرةُ ضوءاً وهي تتمظهر بتجسدناتٍ مختلفةٍ متعددةٍ ومتبانيةٍ على مدى ستةِ دواوين شعرية من مجموع دواوينه السبعة، المكتوبة بحرارة الأرض، وإن كانت القصيدةُ تصرخ لا: (مجنون من يكسر لوح طفولته)، تلك الواقعيةُ الواخزةُ، واقعيةُ الوجعِ الإنسانيِّ، تتكثفُ الواقعيةُ السحريةُ فيها مثل ليلٍ يقبض على ضوء الفجر بأطراف أنامله ليتنهد
ستةُ دواوينَ شعريةً تساندُ فيها الشجرةُ الشجرةَ، وتعشقُ الأغصانُ الأغصانَ، وترقصُ الأوراقُ للأوراق، فتتكاثر الثمارُ معانيَ شعريّةً بين دفتي كلِّ ديوان
حتى تهتزَّ الأرضُ/ تتصاعدُ حُمَمُ صَهيرِ النّشأةِ/ جذركِ يتنفَّسُكِ الآنَ/ تنشقُّ الأرضُ
يعلو وحشُ النّارِ برأسَي الرَّهبةِ/ والبسمةِ/ يجثو تحتَ قدميكِ
لكن من الإجحاف بحق قصيدة سعد ياسين يوسف الارتكانُ الكليُّ على الشجرة، وإن استحوذت قصائدُهُ عليها رمزاً وقيمةً مهيمنةً Dominant Value بتعبير الشكلانيين الروس، فهناك عديدُ الرموز التي بها يعبّرُ النصُّ عن شعريته؛ الأرضُ، الأنهارُ، البحارُ، الأساطيرُ، الملاحمُ، الحضاراتُ، المدن، النماذج العليا Higher archetypes الآلهة، الأنبياء، الحكماء، الفنانون، الشعراء، الشهداء، الأمهات، الآباء، الطبيعة، وعديد النماذج الأخرى، هذا التراث الخالد للإنسان الذي شكّل لاوعي الشاعرِ بانياً ذاكرتَهُ باللامتغيرات البنيوية، وهي تشيّد خيالَ الشعراءِ في كلّ الأمم، انبثاقاً لاستراتيجية الأحلام والأوهام، فتكونُ إنانا، مثلاً، التي علّمت دوموزي الحب بعد أن علّمها الغواية، في قصيدة سعد ياسين يوسف رمزاً لتضحية الأمهات بين الواقع والمتخيّل، إنانا الإلهةُ تتجلّى في صورة الأم واقعاً شعرياً، وهكذا هي صورة الأب التي تظهر مع الإله الأب الذي ينمّط سلوك الابن ويوجه
الأشجار اللاهثة في العراء تضم إليها عناصر الطبيعة الأربعة؛ لتنوجد
الدمعُ صفيرُ الريح/ ونشيجُ الرملِ/ إذ ينهمرُ على جدار لحمنا الحي/ عارياً تحت غيمةٍ/ تمزقها أنيابُ الظهيرةِ
إلى أن يقول
والصهيلُ رماحٌ تكسّرتْ في رئةِ السماءِ/ فأمطرتْ سبايا/ وقمصانَ دم/ حتى استحالَ/ الدمُ نهراً/ من رمال سَفَتْها الريح: لا غصنَ يشيرُ إليك
هكذا تتكاثر الرموز وتتكثف في شجرة كربلاء1 و 2 فتتجلّى صور الحسين والعباس عليهما السلام وفق آليتي التداعي والترابط
منذُ أن توضأ الترابُ بدمك الأخضر/ قامت قيامتُها الأرضُ
لو عاينا قصائدَ أشجارِ خريفٍ موحش، عنوان واحد من الدواوين، وهو يحمل أوجاع الزمن وآثاره جدليةَ اللاجدوى بين طموح الجماهير الحالمة ومآلها، تقابلية بين المؤثّر والأثر والمتأثّر، الخريفُ والأشجارُ الموحشة وحشة اغتراب الذات في موضوعها، فتظهر إنانا مرتدية ثوب الأسطورة قارئة لخارطة سفر الإنسان في تراتيل اللاوعي، ليتجلّى الأنبياءُ ضوءاً لاتقاد المعنى الشعري، محمد، يوسف، نوح، آدم، عليهم السلام، ونماذجَ عليا تمنحُ شجرةَ القصيدة تربةً وماءً، ضوءاً وهواءً، فتقدّم الشجرةُ دوالها للشاعرِ بها يبتني قصيدته، والتي منها شجرةُ آدم، ولربما هي شجرة المعرفة التي بها أبصر الإنسانُ تفاصيل جسده المزدم بالأسئلة، وكأن هذه الشجرةَ قوةٌ خفيةٌ كشفتْ للإنسان الأولِ ولنا كلَّ شيء
شجرةُ آدم
حيثُ التقيا/ نهرا دمٍ وماء/ تكشفُ عن سُرّتِها/ الأرضُ/ تعلو غاباتُ النخلِ/ عصافيرُ الجنةِ/ تصعدُ مثل أذانِ الفجرِ/ من أزمنةٍ تجتاحُكِ كالطوفانِ/ وتعلّقُ فوقَ فروعِكِ آلافَ القمصان/ تستصرخُ ثأراً/ أو تطلبُ نَذْراً أعيتْهُ السنوات
_______________________________
• نص القراءة النقدية التي قدمها الأستاذ الدكتور محمد عبد الرضا شياع خلال جلسة احتفاء
• الجامعة المستنصرية بالشاعر سعد ياسين يوسف لمناسبة يوم الشعر العالمي في 21-3-2023
غرفة 19
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل
- فلسفة القوة عند نيتشه