“حارة النت” ، عنوان يمثِّل خياراً ثقافيا ، اقتنع به الكاتب وأبناء جيله ، أي الانفتاح المعرفي ّ، اعتمادا على الحاسوب وبرامجه ، الذي زاد من تواصل الأفراد والجماعات، بصورة مُذْهِلَة
أما لغة الرواية ، فإيقاعها متلاحق يناسب أجواء المقامات الاجتماعية
فهي لغة فصيحة ، قريبة من اللغة الصحفية ، والحياة اليومية
وأيضا تقريرية ترصد وقائع اجتماعية ،وتصف بشرا في دوامة الحياة
واعتمد على النهج التقريري في الوصف ؛ فتّرتب على ذلك ندرة الحوار، وقد يلجأ إلى الدارجة في حواره ؛ ليناسب الوضعية الاجتماعية للشخوص
– ازدواجية لغة السرد
استخدم الكاتب – في السرد الوصفي – اللغة الفصحى الراصدة لمفاسد مجتمع ، على وشْك التداعي ، دون افتعال بلاغي ، يذهب بالسياق إلى زوايا معتمة ، لا تنسجم و المحتوى السردي
المجتمع يعيش حالة كونية، وشبكة معلومات دولية مذهلة ، أكلتْ أدمغة الكبار والصغار– فأعادوا النظر في كثير من المسلمات
فلا مفرّ من هذا المستوى اللغوي ، في ذلك الظرف الحضاري
فلنقرأ هذه اللوحة
” فكشف مسعد .. لصديقه عمر..عن السر بأن حزباً ما، يدعم الجريدة ؛ لكي لا تنشر ما فيه المساس بالحاكم والوريث ومن يصر على موقفه ، لا يعين في الجريدة ” (الرواية ص38)
إذاً هي لغة راصدة لواقع مهترئ ، كاشفة لعواره المؤسَّسي
أما الحوار ، فدارجته غير مسفّة – بل ملامِسة للفصحى أحيانا
كما في حديث عُمَر.. لمُسْعد
“وأنت يا شاعرنا ..سجِّلْ في ديوانك الجديد هذا الجُرْم الذي نراه في حياتنا؛ حتى يرتاح ضميرك يوم الحساب” (الرواية ص50)
وفي ردّ مسعد على الحاج توتو ، منددا بتدني مستوى المعيشة قائلاً
” مقاهي منتشرة زي الجراد ! تعليم بايظ ! صحافة ملاكي
مرتبي من الجريدة مائتا جنيه ! وفيه بعض زملائنا بيقبض
خمسين جنيها ! خمسين ملطوش ! ” (الرواية ص46، 47)
نرى المؤلف – من خلال تلك اللغة – في حالة تماسّ مع انفعالات شخوصه بواقعها المؤسف – متابعا تطورات الدارجة في تسمية الأشياء ، تسمية تشفّ عمّا تمثِّله في نفوسهم
فالجنيه هنا اسمه ” ملطوش ” كناية عن تدنّي قيمته الشرائية ؛ فالعامية هنا ضرورة فنية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ب-ازدواجية الشخصية
فالأسيوطي البطل ، وبسهولة -عرفنا أنه هو نفسه الروائي عبد الواحد محمد
عمر مشتَّت بين عالم الوظيفة ومطالبها الآلية الصّمَّاء ، التي تعتصر حرية الفنان وطاقته – وبين عالم الثقافة المتعطش لكسر القيود ، وبعد صراع مُضْنٍ – نرى “عمر” قد حسم أمره باختيار عالم الثقافة
إن الصراع بين الجانبين : الوظيفة والفكر
الوظيفة قيد اجتماعي غير مرئيّ ، الدوران في فلكها تعطيل لملكات الإنسان المبدعة ، وإن وفّرتْ أسبابا مادّية لعيشه –
والفكر نشاط عقلي ضامن للتفاعل البشري مع الحياة علماً وإبداعاً
الصراع حتمي بين الزائل والخالد
وبذلك أخذت البنية المزدوجة في السرد- تتشيَّأ ، وتتنامي باضطراد
وبفعل تدفُّق الأحداث، وفقاً للاتجاه السردي التاريخي للزمن ، بشكل سهمي للأمام – بدأ تشتُّت البطل ذهنيا بين ما يتمنّاه ، وبين ما يواجهه ! وسرعان ما انسحبت تلك الازدواجية على المكان والزمان
ج-ازدواجية المكان
يعيش البطل متنقِّلا بين القاهرة والمنصورة مشتَّت الذهن ، قَلِقَ المشاعر
ففي العاصمة: الرزق وصخب الحياة ، يلتقي فيها المبدعين والمثقَّفين ، إنها موئل الطموح الأدبي
أمّا المنصورة ، ففيها يحيا بوجدانه المكتنز بتذكارات الطفولة وحُبّ ” نانا” ، فجسده في القاهرة ، وروحه في المنصورة
وفي خِضمّ هذا الصراع – عانت نفسه من الانشطار،خاصّةً ، إذا ما تحدّاه الاختيار بين العالَمَيْن
وهنا وَثَبَتْ إلى ذهن المؤلف – تقنية تيار الوعي الذي يصف حالة الصراع هذه -عندما قال
” والله يا عُمَر! هذه ليست مبالغة ، حتى الميّت لا يُرْحَم في هذا الزمن !”
ولكنه سرعان ما تخلّى عنها، وعاد مرّة أخرى للسرد بصيغة الراوي العليم ؛ لأنها أكثرملاءمة للنهج التقريري في الوصف ، أمّا تيار الوعي والبوح الداخلي – كل ذلك لا يخدم فكرة كشف سوآت المجتمع
د- ازدواجية العصر
فالمؤلِّف يصف لنا عالَمَيْن ، الصراع بينهما لا يفْتُر إيقاعه أبداً ، فهو عنصر فعَّال نشِط ومستَتِر، يحرِّك الأحداث
الثقافة الرقمية الطاغية على زمن السرد ، والضاغطة على المجتمع و الحياة – وبين الثقافة الورقية الحاملة عبق الماضي ورائحة الأسلاف – وقد ألمح إليها السارد ، من خلال كتابات نجيب محفوظ المُتيَّم بها ؛ رغم ذلك ، لم يجعلها أداة حسم – مُؤْثِراً الأولى عليها ،فالاختيار هنا يعادل الرهان على المستقبل لدى المؤلف
هـ – ازدواجية المجتمع
أخذت الازدواجية تتسلّل تدريجيا إلى أروقة النصّ؛ حتى أدركت بنية المجتمع ذاته ، وفقاً لقانون الاستطراق في السوائل
أيمن زكي باحث شابّ ، حاصل على ماجستير في الهندسة النووية يطلب علاوة ، من رئيسه في الوظيفة ؛ مكافأةً على درجته العلمية الرفيعة – فإذا به يرد
” لو ماجستير في الرقص الشرقي ، كنت وافقت على طلبك ..بكل سعادة ! دا العلم المطلوب في هذا الزمن ” (الرواية ص84)
هذا الردّ يشطر بنية المجتمع نصفين
الأولى ، بِنْية يمثّلها هذا الشاب الطموح، بيد أن غول البيروقراطية ، يُسْفِر عن أقبح وجه ، فلم يجد أمامه – من هول الصدمة – إلا البكاء !! ومثله شرائح أخرى بذات الطموح
الثانية ، بِنْية يمثِّلها محمد وجدي رئيسه، يستهزئ بالعلم ، و يحبِّذ الرقْص عليه ، ويرفض منح علاوة هزيلة لهذا الشاب الطموح ! ومثل محمد وجدي شرائح أخرى بذات الانحدار
وأخيراً الحبكة في السرد
لا روابط منطقية بين الأحداث ؛ فالمؤلف لم يعبأ بالحبكة التقليدية ؛لأنها – هنا – حالة زيف فنّي ! وحتى تتحقّق ، سيُضطرّ إلى تغيير مسارات أحداث كثيرة ؛ فتنهار بِنْية الرواية وتتبخّروجهة نظره
فحالة الفوضى الضاربة للسرد – هي قمّة الفنّ لهذا النص تحديدا ؛ لأنها انعكاس لصورة مجتمعه
فما أصدقه ، حين يُعلِن أن الانتصار في الحروب – يصنعه فقراء الوطن ، ويقتنصه الأغنياء! وقد قالها يوسف القعيد من قبلُ في رواية” الحرب في برّ مصر”
وما أقربه من الوجوه المكتئبة ،بينما التوريث – يُعَدُّ له على قدم وساق ، مع صمت الحِمْلان من كل صانعي المشهد السياسي
يتساوى في ذلك – النُخَبُ والطبقة البرجوازية – الذين دغدغوا أحلام الوريث ؛ للإبقاء على امتيازاتهم – فخرج المهمشون ، وضحايا برامج الخصخصة – من تحت الركام ، مطالبين بحياة أفضل،بعد أن أسهمت شبكة الإنترنت في إشعال فتيل الثورة ، كما أسهم البرق “التلغراف” من قبلً- في إشعال الثورة العرابية
إنها رواية مهمة تؤرِّخ فنّيّاً لمرحلة مفصلية من عُمْر الوطن ، سطّرها روائي طموح