بعد عامين تقريبًا، تغيبت معلمة الرسم عن حصتها، فأصبحنا نملك حصتين فارغتين. طالبنا بحقنا في اللعب بفناء المدرسة؛ لكن كان هناك اجتماع عاجل بالإدارة فصاحب السمو الملكي – مالك المدرسة – كان حاضرًا، ولم يكن هناك مجال للسماح بإصدار أي صوت مزعج، لذا جلسنا داخل الفصل. وبفضل سمعتنا السبَّاقة بالشغب، تقرر اِنتداب أستاذ اللغة العربية ”مستر هاني” ليتولى الإشراف علينا، والذي قرَّر بدوره أن يروي لنا قصة، وبالطبع كانت قصة ”بينوكيو”.
كانت قصته تدور حول الحطاب ذاته الذي يعمل بقطع الأشجار، لكنه على ما يبدو كان رأسماليًا جشعًا، لذا حين رأى شجرة ضخمة ذات سيقان نضرة، ضربها بفأسه وسمع صوت تأوهها لم يهتم، اختار أفضل جذع بينهم، وباعه لنجار بثمن باهظ، ليحوله النجار إلى دمية، ويصيبه التعب فيغادر متجره ليلاً، ويتفاجأ بالدمية تتحرك نهارًا فيطلق عليها اسم ”بينوكيو”، ويفكر ببيعه لأن النجار هنا لم يكن رجلاً بلا أسرة، بل امتلك عددًا من الأفواه الجائعة ليطعمها، لكنه قرر تعليم ”بينوكيو” ليصبح دمية مميزة، يتمكن من اِستغلالها فيما بعد، لأنه رجل خبيث، لكن ”بينوكيو” كان طفلاً مشاغبًا، رفض أن يتعلم القراءة والكتابة وكان يحب اللعب فقط. وذات يوم هرب من مدرسته كالعادة، ورأى سيرك فذهب إليه، وهناك رآه مالك السيرك فقرر ضمه لباقي الأطفال لتقديم العروض مقابل المال، واستدرجه عن طريق دمية متحركة كانت دمية أنثى، اِجتذبت ”بينوكيو” للعب معها، حتى أتى المساء، ليتفاجأ بصاحب السيرك يغلق عليه الباب، ويصبح ”بينوكيو” أسيرًا لديه. ويبقى النجار يبحث عن ”بينوكيو” وهو يسب ويلعن حتى يعثر عليه بالسيرك، ويتفاوض مع الرجل لشرائه، وصاحب السيرك يطلب مبلغًا كبيرًا؛ لكن النجار كان يملك أكثر منه، وهنا قاطعته لأذكره بأنَّ النجار كان فقيرًا؛ لكنه قال: “النجار كان بيسرق زباينه، وبيشغل ولاده بعد المدرسة، طبعًا كان معاه فلوس، هو فيه فقرا غيرنا، إسمعي وأنت ساكتة”. هكذا دفع النجار الأموال لصاحب السيرك، لكنه فاوضه مقابل ترك ”بينوكيو” يؤدي عرضه الأخير الليلة. وكان النجار قد إتفق مع ”بينوكيو” لاستغلال أنفه الطويل لفتح زنزانته، وسرقة الأموال من صاحب السيرك، و هنا قاطعت الأستاذ لأذكره بأنَّ النجار قد قص لـ”بينوكيو” أنفه مسبقًا، حتى لا يسخر منه باقي الأطفال بالمدرسة، لكنه أجاب غاضبًا: “هو أنا مش قلت إنه كان بيهرب من المدرسة قبل كدة، يعني أكيد أنفه بقى منقار طويل ولازم يستغلها، مش معقولة يبقى كداب وغبي كمان، يعني هيعمل إيه بمنقاره ده كله”. كانت حجته قوية واقنعتني، فاسترسل: لذا حين أتى الليل اِستغل ”بينوكيو” أنفه الطويل، وأدخله إلى القفل، لفتحه، وسرق النقود من الرجل صاحب السيرك، واكتشف أنَّ الأخير كان يملك أموال كثيرة، سرقها وعاد لوالده الذي فرح بعودته ومعه النقود. وأخيرًا أدرك المهنة التي سيمتهنها ”بينوكيو”، بعد انتهاء العمل في دكان النجارة “حرامي خزن”.
اِتَّخذ الأمر سنوات طوال حتى أدركت الخدعة. فالقصص هي خدعة كبيرة تُسَخَرُ لخدمة أهداف راويها. فالقصة التي روتها أمي كانت ضمن كتيب لقصص الأطفال بهدف واحد هو خلق جيل من الأطفال يُرى ولا يُسمع، جيل يؤمن أن سعادته تتحقق بالطاعة المطلقة، والإقدام على فعل يتنافى مع الطاعة يجعله غير مرغوب، حتى لو كان اللعب، وهو الحق الأهم للطفل، فقد منع اللعب دون ذكر أسباب، ولم يسأل أحد ”بينوكيو” عما يكرهه بالمدرسة. وجاءت النهاية منطقية، لقد فقد ”بينوكيو” ما يميزه عن الأطفال، وتحول إلى طفل عادي، وهنا فقط صار جميلاً من وجهة نظر الراوي، لأنّه صار عاديًا.
أما قصة ”مس تريز” فقد قدمت نموذجًا رائعًا للإرهاب غير المباشر، فهي لم تصرخ بوجهنا أو تعاقبنا على فعلتنا، بل أعطتنا نموذجًا لما قد يواجهه طفل يشبهنا من متاعب فقط لأنه كان مشاغبًا. كان من الأجدر ل
و واجهتنا بخطئنا وساعدتنا على إدراكه، ودلتنا على وسيلة التكفير عنه – هذا لو افترضنا أن اللعب خطأ لا يغتفر.
أما رواية ”مستر هاني”، التي ألقاها كمزحة مستمتعًا بما يراه على وجوهنا الصغيرة من خوف ممزوج بتعجب، وانْتباه للتفاصيل، فهي في الحقيقة فضحت جزءًا من نفسه، لم يكن ليجرؤ على الاعتراف به أبدًا. فقد اِتَّخذ جميع أدوار البطولة بقصته، فكان هو الحطاب والنجار وصاحب السيرك، وفي الواقع كان أكثر الأساتذة تمييزًا بين تلاميذ المجموعات الدراسية وغيرهم، وكنا نحن الـ”بينوكيو” الصغير، الذي لا يملك إلا أن يكون رد فعل لمزاجه المتغير طبقًا لأعداد تلاميذ المجاميع. وهو نوع من الرواه لا يختلف عن صاحب العمل الذي يسخرك عبدًا له، وليفعل ذلك يعيد صياغة الأحداث من وجهة نظره، وربما بلغت به الجرأة حد إعادة صياغة رؤيتك لنفسك عن طريق خياله المريض، فيخبرك بعجزك عن أداء العمل بشكل صحيح، ومدى اِتساع رحمته، التي جعلته يتخذ منك موظفًا داخل جنته، وإذا طردت منها فلن تجد غيرها، وهو نوع إن قابلته كن واثقًا من أن سلطته عليك زائلة لا محالة، ولن تستمر إلا لفترة مؤقتة، فلا تشغل بالك بالإنصات لأفكاره الفاسدة.
حين تقدمت أكثر بالعمر، أدركت أنَّ تعدد الروايات هو رفاهية في ذاته، لأنه على الأقل يساعدك على إعطاء مساحة لوجهات النظر المتعددة، وهو ما قد يؤدي بالتأكيد إلى البحث عن الأسباب لامتلاك وجهة نظرك، وروايتك الخاصة، أما الآن فنمتلك عددًا لا يحصى من جهات البث، لكنها جميعًا تروي القصة برواية واحدة ونحن نراه مألوف، لذا بات واقعنا يتمثل في آراء مسبقة وأفكار يسهُل بثها داخل رؤوسنا، وهي تتفاوت في سذاجتها، لكنها أحيانا تكون بالغة السذاجة، ولعل أفضل الامثلة على ذلك ما حدث أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير ومازال يحدث الي يومنا هذا من استرجاع لإحداث مسبقة وإعادة روايتها من جديد لتتكشف جوانب جديدة تؤدي لأن ينتابك الجنون