إن نقد العمل الأدبي لا يخلو من الانطباعية التي تتوازى أحيانا مع رؤيو نقدية، وحسب نظرية القارئ فإن النص الأدبي يبقى مفتوحا على قراءات مفتوحة لا تنتهي . وفي ضوء ذلك فلا شك أننا أما كاتب ذي دراية بالنسج الروائي ، وتشكل روايته ” أفندينا ” حلقة من سلسلة حلقات في تجربة محسن الغمري الإبداعية ، وهي : ” وثبات طويلة عالية ” وحكاية قبل الموت ” و”ربما ذات يوم”و” فاطمة بلانش” ، إضافة إلى مجموعته القصصية المعنونة بـ “القفز فوق السحاب ” .
والحقيقة أنني قليلا ما أقع في غرام الرواية التاريخية لكن الغمري استطاع أن يستدرجني إلى رواية ” أفندينا ” ويوقعني في حب الفكرة التي انطلق منها ، فروايته المذكور تاريخية منذ عتبتها الأولى التي جاءت في مضمونها ذات بعد رمزي ؛ حيث بدأ مع شخصية السفير وصديقه اللذين أحيلا على التقاعد ، وبدأا ينبشان المخطوطات ويعيدان ترتيبها ؛ وكأن الكاتب يريد أن يقول أن ترتيب الحاضر لا يبدأ إلا بإعادة ترتيب الماضي وقراءته وفهمه والاعتماد عليه في نقد الواقع .
وفي ضوء ما سبق ، إن إعادة كتابة التاريخ بالاعتماد على سبعة وعشرين مصدرا تاريخيا ووضعه في قالب أدبي متراسل في كثير من مقوماته ليس بالأمر السهل ؛ وفي ذلك يحسب للكاتب محسن الغمري أنه لم يقع في فخ السرد التاريخي الصرف ، وأنه نجح في منح النصوص التاريخية وما تنقله من أحداث صفة أدبية ، بالاعتماد على تقنيات السرد الروائي وعناصرها ؛ ولعل ذلك قد أسهم في استدراج متلق مثلي يمل من السرد التاريخي الصرف ، ولم يخرجه من الملل إلا كاتب يعرف من أين تؤكل الكتف ، في صياغة العمل الروائي الذي يعتمد على الخيال الخصب تارة ، ويدخل في أعماق الشخصيات تارة أخرى ، ويرسم الصور الدقيقة لفضاءات المكان وفضاءات الزمان اللذين جاءا متراسلين ؛ فالمكان في الرواية مكان حاضر يقابله زمان حاضر ، تحده جلسة السفير الذي أحيل وصديقه على التقاعد ، وأخذا ينبشان التاريخ في شقة السفير التي احتوت على مخطوطات تاريخية تتضمن في ثناياها سردا عن أحداث ارتبطت بالتاريخ الماضي ، الذي وقعت أحداثه في أمكنة مفتوحة مسرحها مصر التاريخية والجزيرة العربية والسودان والشام وتركيا واليونان ، بالتوازي مع أمكنة مغلقة كانت مسرحا لعلاقات وحوارات وأحداث بين أفراد الأسرة الحاكمة ومن يعيش معهم من العبيد الخصيان والجواري ، والعمال والقناصل داخل الحرملك والسلاملك .
وصحيح أن السرد التاريخي هو ملمح بارز في رواية ” أفندينا ” ، لكن الكاتب أضفى عليها بعدا أدبيا وعبر عن رؤيته وفلسفته وتناول قضايا ذات أبعاد عابرة للأزمنة والأمكنة ؛ فبقدر ما حاول أن يظهر حياديته في نقل الأحداث والوقائع التاريخية ، وعبّر عن الشخصيات كما عبرت عنها المصادر التاريخية ؛ فإنه نقد الحاضر بالماضي ، وفتح المجال أمام المتلقي لنقد الماضي ، وبدا متعاطفا مع بطلي هذه المرحلة ( محمد علي باشا ، وعباس حلمي باشا ) وقدمهم بصورة مشرقة ، على الرغم من تحفظه على بعض السياسات والسلوكات والتصرفات التي صدرت عنهما .
ولكي أكون موضوعيا في نقدي فإن النسخة التي بين يدي الصادرة بطبعتها عن مؤسسة أروقة للدراسات والنشر سنة 2021 م تحتاج إلى مراجعة لغوية تنقيها من الأخطاء النحوية والصرفية والطباعية ؛ لأنها تخل بالبناء اللغوي العام .
كما أنني كنت أتمنى لو افتتح الكاتب كثيرا من مفاصل الرواية بعتبات أدبية من شأنها أن تضيف مساحات أدبية وفنية جاذبة قادرة على تشويق المتلقي ووضعه في حالة ترقب وتخيل إلى ما ستؤول إليه الأحداث ، وتفضي إليه الصراعات الداخلية والخارجية .
وفي قراءة موضوعية لرواية ” أفندينا ” ، يمكن للقارئ أن يستشعر حرص الكاتب على التعبير عن الأبعاد السياسية التي تتصل بفترة حكم محمد علي باشا وحفيده ؛ فهو يقف على حلم محمد علي باشا منذ بدا فكرة حتى صار واقعا ، وهو ما عرف بمصر الكبرى التي خرجت من حدود مصر التاريخية المعروفة حتى صارت تضم الحجاز والسودان والشام .
واللافت أن هذا الحلم ارتبط بشخصية عبقرية ذات فكر استراتيجي وذات نظرة ثاقبة قادرة على انتزاع دور مصر الريادي في الشرق ، وقد عبر الغمري عن ذلك في السطر الأول من افتتاحية روايته ؛ يقول : مع اختفاء محمد علي اختفت العبقرية ” ، وفي ذلك إشارة واضحة للدافع الحقيقي من روايته ؛ فالكاتب يعبر عن تعطشه لشخص فيه صفات محمد علي وعبقريته .
وهكذا قدم الكاتب محمد علي باشا بوصفه شخصية نامية ومتطورة ومحركة للأحداث ، ورسم لنا البدايات التي انطلق منها على لسان السارد صفاء الدين القولي : “محمد علي باشا ضابط ألباني جاء غربيا إلى مصر ، وصار مصريا خالصا ، ولمع نجمه وسط سماء المماليك الحالكة ، فحولها إلى ضوء ساطع وجعل من مصر دولة قوية على طريق الاستقلال التام ” ص285
وهكذا ، بدأ حياته من ضابط ألباني في الجيش المصري إلى والٍ تحت عباءة السلطان العثماني ، ثم إلى ند يحسب له حساب ؛ وهو شخصية سياسية وعسكرية ذات تركيب استثنائي ؛ فهو أفندينا في علاقاته داخل السلاملك والحرملك وفي حدود مصر التاريخية ، وهو والي النعم في البناء ، وهو الحاج في المناسبات الدينية ، وهو عزيز مصر ومليكها في اعتبارات أخرى .
وهو قادر على القيام بأعمال كثيرة متزامنة تحفظ لمصر هيبتها وقوتها ؛ يستخدم القوة في إخماد ثورات المماليك والأرنؤوط ، ويحرك حملات عسكرية نحو الحجاز والسودان والشام ، ويتقن إدارة التحالفات ويحافظ على التوازنات في علاقاته ؛ فيتقن سياسة الانفتاح على الغرب ويرسل البعثات العلمية ، ويواكب التطورات العصرية ، ويلتقي القناصل والسفراء ، ويفتتح المساجد والترع ويراسل الدول .
وتعد شخصية عباس حلمي ( حفيد محمد علي من ابنه أحمد طوسون ) امتدادا لشخصية محمد علي الجد ، وإن ظهرا مختلفين في سياستهما على مستوى العلاقات مع الداخل والخارج ؛ وقد حرص الكاتب أن يقيم مقارنة بين الشخصيتين ؛ وأن يقف بطريقة أو بأخرى أن يقف على الأسباب التي تمنح الدول قوتها وديمومتها ، والأسباب التي تؤدي إلى تفسخها وانهيارها وتراجعها ، وأشار إلى أطماع الأسرة الحاكمة ، التي كانت أحد الأسباب الأساسية في تراجع الحلم وانحساره ، ولعل ذلك يمكن أن يقودنا إلى قضية تحسب للكاتب ، حيث خصص في روايته مساحة ، وقف فيها على الحياة الداخلية للأسرة الحاكمة ، وسلط الضوء على العلاقات داخل السلاملك والحرملك ، وقدم صورة مشوبة بالمؤامرات والفتن والحقد والضغينة والاستعداد للقتل بسبب شهوة السلطة والميراث ، ومن أبرز الاقتباسات التي تبين ذلك ما ورد على لسان صفاء الدين القولي وزوجته : يقول لسان الدين القولي :
” يحسب الناس أن القصور قطعة من الجنة ، ومن فيها يعيشون مدللين هانئين لا يحملون للغد أي هم ، هؤلاء واهمون ، يعيشون في أكذوبة صنعوها في خيالهم ، وهم أبعد ما يكونون عن الحقيقة فوراء تلك الجدران العالية حروب ودسائس ، ونمائم واغتيالات ، وسجون قسرية ، وأخرى اختيارية ، والقصور لمة يحيا فيها على رحابتها جحور ضيقة ، قد تكون خانقة برغم حدائقها المترامية ، وعيونها الجارية ، في القصور ينقلب فراش الحرير إلى شوك ، وشهد الطعام إلى سم ناقع ، القصر قفص رائع الهيئة لعصفور بهي الطلة ” ص75
وورد على لسان زوجة صفاء الدين القولي : “ كنت أظن أن بذخ الحياة ورغد العيش في الحرملك سيجعل من الأيام حلما جميلا .. ولم أتخيل للحظة أن لرتابتها ثقلا يجثم على الصدور ، وهما يثقل القلوب ، ناهيك لعنصرية للقائمين عليه ، وتصنيفهم لساكنية تبعا للون بشرتهم ، حياة الحرملك عذاب في النهار أرق في الليل ، ومن كتبت عليه الحياة هناك يعيشها مسيرا لا مخيرا ، تنزع من صدره إرادته قبل الولوج إليه ” ص189.
وهكذا ، فبقدر ما حاول الكاتب أن يرسم صورة مشرقة خارجية لسياسات محمد علي وحفيده على امتداد خمسة عقود ، نجده يرى أن انهيار الحكم بدا من داخل الأسرة الحاكمة ، وكأنه أراد أن يقول : إن الدول تنهار من داخلها ، وإن على الأنظمة الحاكمة أن تحافظ على توازناتها الداخلية كي تحفظ قوتها وديمومتها .