حكمة اليوم: فاز من نهض صباحاً، ليجد رأسه بين كتفيه.
حكمة العمر: فاز من التجأ إلى أناه، إلى ذاته، في كل ليلة، حاملاً معه ذخيرة مخمرة، جديدة في كل مرة، من هوية الآخر، من ثقافة الآخر، من تجربة الآخر، من شخصية الآخر.
الأنا والآخر، تلك المعادلة الصعبة.
تلك المعضلة التي أقضت مضاجع جميع الأمم والشعوب عبر التاريخ.
كيف نتعامل معها؟ كيف نقوّمها؟ كيف نوازن بين طرفيها اللدودين؟
بدايةً، ما هي الذات؟ ومن هو الآخر؟
الذات هي كياننا الداخلي، كأفراد أو كجماعات.
هي ثقافتنا، أفكارنا، مشاعرنا.
هي ما نؤمن به، ما يقودنا في دروب الحياة، ما نختزنه ونبلوره ونراكمه من تجارب.
هي القناعات التي نتوصل إليها، والمبادئ التي نجعلها دليلنا ومرشدنا، بعد كل هذا وذاك.
هي ما يسيّرنا، ما يحدد لنا المسار والمصير.
هي عنواننا الكبير، الذي تقود إليه كل دروبنا.
هي عاداتنا وتقاليدنا.
هي العلامات والمؤشرات، التي تدل علينا.
هي ما يميّزنا، ما يرسم قسمات وجوهنا، واختلاج قلوبنا، ونبض عقولنا.
هي ما يحدد ملامحنا.
هي تاريخنا، ماضينا، حاضرنا، ومستقبلنا.
هي آمالنا، أحلامنا، ما تحقق منها، وما نسعى لتحقيقه.
هي الحدود التي تؤطرنا. تلك الحدود التي نطل عبرها على الآخر، أيّ آخر.
هذا الآخر، الذي هو خارجنا، خارج حدودنا.
والذي من البديهي أن تتقاطع معه دروبنا.
أن نتشارك سوية في أمور كثيرة، ونواجه معاً هموماً شتى.
هو الذي قد نتفق معه في قضايا عديدة، وقد نختلف في قضايا أخرى.
هو الذي قد يحمل أفكاراً وتطلعات، لا تتوافق مع أفكارنا وتطلعاتنا.
هو الذي قد تكون أحلامه غير أحلامنا، ثقافته غير ثقافتنا، عاداته وتقاليده غير ما نحن عليه.
هو الذي يرفع هوية مختلفة عن هويتنا.
ويخطط لمصالحه، بشكل قد لا يتناسب مع مصالحنا.
لكن هذا الاختلاف ليس بالضرورة أن يزرع خلافاتٍ في الحقول الممتدة والمتداخلة فيما بيننا.
وهناك بون شاسع بين الخلاف والاختلاف.
وليس بالضرورة أن يحفر هوة واسعة تعمّق الشروخات القائمة، وتباعد بين الحدود، وتجعل التلاقي أمراً يقارب المستحيل.
هذا في المبدأ.
ولكن، شتّان ما بين المبدأ والواقع. فالمبادئ في واد، والوقائع في واد آخر، بعيد كل البعد.
في المبدأ، الاختلاف لا يفسد في الود قضية.
أما في الواقع المعاش، فالاختلاف يفسد كل شيء، ويجعل إمكانية التلاقي أمراً صعب المنال.
في المبدأ، هويتي لا تتعارض مع هوية الآخر.
أما في الواقع، فهوية الآخر تمثل خطراً كبيراً على هويتي، وينبغي التصدي لها.
في المبدأ، ثقافتي وثقافة الآخر تتكاملان، لتشكلا بحراً ثقافياً زاخراً، وتتلاقحان في سبيل إيلاد حضارة إنسانية رائعة.
أما في الواقع، فثقافة الآخر محاولة لاجتثاث ثقافتي، محاولة لإلغائها، وإلغائي معها.
في المبدأ، علاقتي بالآخر تقوم على تبادل بديهي للاحترام والقبول، وتؤكد أن وجوده استمرار لوجودي، بل ومكمل لوجودي.
أما في الواقع، فلا علاقة لي بالآخر. وإن كان من علاقة، فهي علاقة تضاد وتنابذ وتنافر وتقاتل. بل إن وجوده يهدد وجودي. فأنا لا أقبل به، مثلما لا يقبل بي. ولا أحترمه، مثلما لا يحترمني. ولكي أضمن بقائي، لا بد من إلغائه.
واللائحة تطول وتطول وتطول.
وكما أسلفت القول، شتّان ما بين المبدأ والواقع.
ولكن ما ينبغي ألا يغيب عن العقل والفكر والمنطق، أن أحداً لا يمكنه إلغاءُ أحد. فلكلٍّ خصوصيته وشخصيته. ولكلٍّ هويته وثقافته. ولكلٍّ كيانه المستقل ووجوده الخاص.
وتالياً، ما ينبغي أن يثبت في العقل والفكر والمنطق، أن الخصوصية في الشخصية والثقافة والهوية لا تعني التقاتل فيما بينها، بل التواصل. ولا تعني الاحتراب، بل الاقتراب. ولا تعني الانفصال، بل السعي للتكامل.
والمطلوب أسهل بكثير مما يُظَن: احترام الآخر، والقبول به، ليس إلا.
وفي المقابل، لا بد من الإشارة إلى أمر بالغ الأهمية. صحيح أنه ما من أحد يود إلغاء ذاته، أو يعمل على إلغائها. لكنه، بشكل أو بآخر، يحكم عليها بالإلغاء، أو بالتقوقع والانزواء، حين يعمل بكل ما أوتي من قدرات، على إلغاء الآخر.
بل إن أمراً كهذا لا يشبه إلا عملية انتحار. أو كمن يطلق النار على قبطان طائرة في الجو، وهو بين ركابها، ولا يجيد القيادة، لا هو، ولا أي من الركاب.
إنك، حين تسعى لإلغاء الآخر، تنظيراً وتخطيطاً وتنفيذاً، يعني ببساطة أنك تسعى للقضاء على نفسك، لإلغاء ذاتك. لأن الآخر هو مرآتك. هو انعكاس لأناك. هو من يكملك. هو من يتداخل في كل التفاصيل المكونة للوحة عمرك، فرداً كنت أو جماعة.
الآخر هو امتداد لك، مثلما أنت امتداد له.
وصحيح أيضاً، أن الأنا والآخر قد يكونان ضدين. ولكن كما يقول الشاعر:
ضدان لما استجمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضد
علماً أنهما ليسا ضدين بالضرورة.
ومن غرائب ما يمكن أن نسمع مما يقوله البعض، وهم كثر، إن الانفتاح على الآخر، واحترامَه، والاعترافَ به، يعني إنهاء ما شيدته الذات، وما حققته من انجازات فكرية وثقافية وحضارية.
ومن الواضح أنه غاب عن أذهان هذا البعض أننا نكبر بانفتاحنا حقاً على الآخر؛
وأن صورتنا تصبح أنقى وأشد رقياً، حين تتداخل خطوطها وتفاصيلها بصورة الآخر؛
وأن انفتاحنا على الآخر يعني حكماً انفتاحاً على أنفسنا، بشكل أكثر اتساعاً، وأشد وضوحاً؛
وأن دخولنا في عالم الآخر، والتعرف على فكره وثقافته، سيؤدي بشكل تلقائي إلى الغوص في أعماق ذاتنا، إلى التعرف على أنفسنا بشكل أكثر دقة؛
وأننا نصبح أكثر إبداعاً ووعياً، كلما نهلنا من منابع المعرفة التي وضعها الآخر على خارطة الحياة؛
وأن أفكارنا تصبح أكثر غنى، كلما تقبلنا وجهة نظر الآخر، ورحنا نستكشف ثقافته وأفكاره؛
وأن عجلة التطور الحضاري تصبح أكثر دقة وإنتاجاً، عندما يقودنا الانفتاح على الآخر، إلى الإيمان بحرية كل شخص في التعبير عن نفسه، وإلى القناعة التامة بوجود وجهات نظر أخرى، نتقبلها، حتى وإن كنا لا نتفق معها.
ومن الضرورة بمكان أن نتنبه إلى أن الحضارة الإنسانية هي ملك عام، يتشارك فيه كل بني البشر، مثلما تشاركوا في بنائها حجراً حجراً.
الحضارة ليست ملكاً لأحد دون سواه. ولا يمكن لفئة مهما بلغ شأوها أن تدّعي أنها ولاَّدة للحضارات دوان سواها.
فالحضارات لم تأت من فراغ أو من عدم، وإنما كانت تجاربُ الشعوب وإنجازاتُهم، عبر التاريخ، في شتى مجالات العلوم والمعارف والثقافات، تضيف لبنة إلى المدماك الذي شيدته الشعوب التي سبقتها.
وهكذا تكاملت، ولا تزال تتكامل إنجازات الشعوب، مولِّدة هذا الإرث الحضاري الذي نتنعم بغناه، والذي عليه بصماتنا وبصمات من سبقنا.
هذا الإرث الحضاري، هو نتاج تلك الشراكة الإنسانية الرائعة، الممتدة عبر الأزمنة.
تلك الشراكة التي تعني حكماً أننا ملزمون أن نكون معاً، أن نتواصل حتى نتكامل.
والأمثلة على تلك الشراكة الإنسانية الهائلة كثيرة للغاية. فالحضارة العربية الإسلامية، على سبيل المثال، نهلت من منابع الحضارات الفارسية والهندية واليونانية وغيرها، ثم نقلت ذلك الإرث الحضاري إلى أوروبا والغرب، عبر الأندلس، ليكون منطلقاً ومؤسساً وداعماً لولادة الحضارة العالمية الحديثة.
وفي النهاية، ماذا يمكن أن نقول لتلك العقول المتقوقعة على ذاتها، التي تروّج لمقولة أنه من ليس معنا فهو ضدنا. والتي تدفع بشكل لا واعٍ، إلى أن يتمترس كل منا خلف ذاته، خلف حزبه ومذهبه ومعتقده، رافضاً الآخر، ومستبعداً حتى مجرد فكرة التواصل معه، كمنطلق لاحترامه والقبول به؟
نقول ببساطة المؤمن بحتمية التلاقح الحضاري:
واهم من يظن أنه، وحده، مركز الثقل في العالم.
وأنه، وحده، قطب الرحى.
وأنه، وحده، الواحد الأوحد.
واهم من يظن أن العالم يبتدئ به وحده. وينتهي عند حدوده ليس إلا.
واهم من يظن أنه هو، وحده، مبتدعُ الحضارات، ومنشئُها، وصانُعها. وأنه من يهب من نتاجها، ومن يمنع.
وسأختم بحكمة العمر التي ابتدأت بها.
فمن يغوص في أعماق ذاته، محملاً بذخيرة طازجة من جنى الآخر، ثقافة وتجربة وهوية، هو الفائز الحق.
واعلموا أن من تمرَس في إتقان عملية الانفتاح على الآخر، ستنفتح أمامه بواباتُ الانفتاح على أناه. وهنا سوف يرى حقيقة ذاته على حقيقتها. وستكون الصورة واضحة له وضوح العارف.
أما من نظر في مرآة أناه، كل صباح، ومن تأمل في لوحة عمره كل مساء، ولم يرَ إلا صورة ذاته دون سواها، ولم يتداخل في لوحة عمره أي لون خارج عن ألوانه الخاصة، فقد خسر خسراناً أكيداً.
اللهم فاشهد إنني بلّغت.
د. علي عجمي
ديربورن هايتس،
10 أيلول (سبتمبر) 2023
(المحاضرة التي ألقيتها في مؤتمر بعنوان: الحوار مع الذات ومع الآخر، والذي نظمه المنتدى الثقافي الأسترالي العربي)