القصة والرواية والشعر والرسم والنحت والعمارة والرقص والغناء ونحوها من وسائل التعبير التي ابتكرها الانسان على مر العصور لم توجد جزُافا ولا ظهرت للوجود بمحض الصُدفة، وإنما هي حيلا نفسية وألاعيب مقصودة يعتمد عليها أصحابها بُغية التحايل على الواقع المعيش الذي قد يكون قاسيا ومريرا بدرجة يتعذر معها في كثير من الأحيان التأقلم والتعاطي الناجح، هذه الفنون غالبا ما تشرع الأبواب على مصراعيها أمام عمليتين بالغتي الأهمية للإنسان هما عملية الحلم والخيال وإلى أبعد الحدود، فما يكون حلما صعب المنال اليوم يصير حقيقة ماثلة يوما ما، وما يعتبر خيالا سيأتي وقت لا محالة ويعترف به الناس.
ولكوني كاتبة في مجال الرواية والقصة فقد اعتمدت منذ البداية أسلوبا هو أن أحتفي في كل نص ابداعي من نصوصي البالغ عددها عشرين نصا بقضية أو مشكلة اجتماعية أحسبها ذات صلة مباشرة بالمرأة ومنها بكل أفراد المجتمع، ومن حيث لم أنتبه فقد وقف مني القراء والنقاد موقف الاتهام بأنني، نصيرة المرأة ومدافعة عنها، وكأن هذا عيبا أو نقصا فاضحا يتوجب اخفائه. وقد عزا البعض هذا الاهتمام إلى نوع ما من الظلم الحقيقي ربما تعرضت له في مرحلة من مراحل الحياة.
بادئ ذي بدأ أعترف بأن هذا الاتهام ليس باطلا، ولا أساس له من الصحة فحسب، بل هو بعيد كل البعد عن الواقع. فأنا أنحاز للمرأة نعم، وأدافع عنها صحيح وبأشكال فنية غير مباشرة، وذلك على سبيل المثال من خلال الحوارات التي تعبر عن قناعات الشخصيات فضلا عما قد تنتهي إليه هذه الشخصيات من مصائر تستحقها.
وأنا حين أفعلها فإنني أفعلها بوعي كامل لم يغادرني منذ الطفولة وحتى الساعة يتجلى في أن النساء الاماراتيات منذ الجدات والأمهات وإلى يومنا الحالي يتميزن بصفات جديرة بالاحترام وعلى رأسها القوة قوة الشخصية ولهن الكلمة الأولى فيما يتعلق بشؤون الأسرة، وأكثر ما تبين لي هذا الجانب المضيء والجدير بالفخر كان في الحقبة الماضية والسابقة على قيام الدولة والاتحاد حين كان الناس وبدون استثناء يصارعون شظف العيش وندرة الموارد حين يختفي الرجال في الأسفار البعيدة والطويلة لتأمين الرزق شهورا ويتركون البيوت ومن فيها في عهدة النساء اللواتي أثبتن استحقاقهن للمكانة الرفيعة التي وضعوها فيها كن يعملن ويشتغلن ويسهلن ويربطن ويحلن كل شيء ويقدن دفة الحياة نحو شواطئ الأمان وبأحسن النتائج المرجوة. وكنتيجة لهذه القناعة فإنني أكره أن تُصور كاتباتنا وكتابنا المرأة الإماراتية الحالية أو الماضية في صورة الضعيفة والهشة والخاضعة والذليلة والتي لا تملك من أمرها شيئا، بل ويتلاعبون بها وكأنها الدمية.
الأدب والفن في الأساس أدوات لتقديم محتوى غني وثري يليق بالقراء المحتملين، الذين لم يأتوا إلينا ليهدروا وقتهم الثمين فيما لا ينفع ولا يقدم شيئا، هؤلاء جاؤوا ليتغيروا ويتشكلوا من جديد وليكونوا في صور تدغدغ أرواحهم وعقولهم وذلك بالكلمة الراقية والصورة المعبرة والاستعارات المؤثرة، هذا إن كان هدفنا الرئيس أن يبقى الأثر ويصير خالدا.
قد يعترض البعض وربما بتبجح:
لم يخلق الفن من أجل المجتمع، بل خلق من أجل الفن نفسه.
هو قول ناقصا ولا يمكن اعتماده ولا قبوله لمن كان يتوسل بفنه احداث الفرق.
فالفن الجيد هو الذي يحقق الفائدة بمختلف أشكالها وفي الوقت هو يعرف مدى تعطش الناس للجمال والمتعة والبهجة.
على المبدع والفنان أن يكون مثقفا حقيقيا وملما بما يدور في المجتمع من مسائل شائكة وقضايا طارئة تتعارض مع ما ورثناه من منظومة أخلاقية، وألا يكتفي في هذا بالظاهر والمسموع والمرئي والطافي فوق السطح بل أيضا بأدواته يتكفل بالحفر العميق ليضع يده على ما يختفي تحت السطح من الجراح والندوب وهي موجودة حتما بدرجات متفاوتة في كل المجتمعات وإن ادعت المثالية، وألا يعزل نفسه ويعيش في أبراج عاجية يطل على الناس من عل كالفلاسفة القدماء الذين كانوا يبدون للناس لمسلكهم هذا كالمجانين لأنهم يتناولون مواضيع غير مفهومة وغير ملموسة وألفاظ مجردة.
عدا عن هذا هو مطالب بتعهد الحس الجمالي لديه بصفته فنانا بالتنمية والتطوير والدربة بأن يرى الأشياء وينظر بعيني ثاقبتين سحريتين تختلف عن عيني الانسان العادي، عينين يبث بهما الجمال والقيمة في كل شيء من حوله بما في ذلك ما ينطوي في الأصل على الشيء الكثير من القبح، كالموت والعدم واليأس والقنوط والدمامة وما إلى ذلك.
أن الله قد أودع في الفنان والمبدع البصيرة الفذة عدا عما منحه إياه من الموهبة كبرت أو صغرت، أليس الأحرى به أن يوظفها بما يليق به وبالمجتمع والناس؟
مقال برؤية أدبية فنية إنسانية جمالية.. تحية وتقدير.
لك باقات الشكر