لنبدأ من اليومي والمباشر جداً. ليجرب كل منا أن يحصي عدد الساعات التي يقضيها في اليوم الواحد وهو غارق في «بحر» هاتفه النقال، حيث لم يعد هذا الجهاز الذي أسموه «ذكيّاً»، مجرد هاتف للتواصل بين الأفراد، كما كانت غاية الهاتف حين نشأ أول مرة، وإنما أصبح عالماً قائماً بحاله، وباتت شائكة ومعقدة الثنائية الناشئة بين ما صار يطلق عليه الافتراضي والواقعي، وهي ثنائية أصبحت محطّ نقاش ليس مجتمعياً فقط، ولا إعلامياً فقط، وإنما هو فكري أيضاً، لا بل وفلسفي.
وجوهر هذا النقاش أو السجال أعمق من أن يقف فقط عند «الإيجابيات» التي أتت بها التقنيات الرقمية، وسهلت الكثير من أوجه الحياة، وإنما الغوص في ما هو أبعد، لملاحظة أننا أصبحنا أسرى هذه التقنية، لكننا نذهب إلى «الأسر» طائعين، قانعين، بل ومبتهجين، رغم أننا، بسبب ذلك، نتخلى عن طبيعتنا أو روحنا الجمعية، لننزوي في «سجن» العالم الرقمي الفردي جداً، رغم قدرته على إيهامنا بالعكس.
نعلم أن هذه مسألة معقدة، وليست بالبساطة الظاهرة، وأن الآراء حولها تتفاوت، فبوسع أي واحد منّا أن يقدّم من الأدلة المقنعة على أن عالم اليوم، في فضاءاته الرقمية، أرحب بكثير من عوالم الأمس، رافضاً للمبالغة في الحديث عن سلبياتها، ولكن هذا يجب ألا يحملنا على تجاهل ما يطرحه مفكرو اليوم حول «الديكتاتورية الخفية للرقمية»، وهو بالمناسبة عنوان فرعي لكتاب حمل عنوان «الإنسان العاري»، وضعه مفكران فرنسيان هما مارك دوغان وكريستوف لابي، وترجمه إلى العربية عالم السيمائيات والأكاديمي المغربي سعيد بنكَراد، وهو ليس الكتاب الوحيد ذا الصلة بالموضوع الذي ترجمه بنكراد، فهناك كتاب فرنسي آخر من تأليف إلزا غودار عن ما بتنا نعرفه ب «السيلفي»، حمل عنوان: «أنا أوسيلفي إذن أنا موجود»، ويبحث في «تحوّلات الأنا في العصر الافتراضي»، وكلا الكتابين جدير بالقراءة وبوقفات جادة أمام محتواهما.
ليس محتوى الكتابين وحدهما جديراً بالوقوف عنده، وانما تقديم المترجم لهما، لا من موقع المترجم وحده، وإنما من موقع الباحث والمفكر، كأنه يمسك بيدي القارئ نحو فضاءات الكتاب المترجم، وهو يتناول «الأنا الرقمية» التي توهمنا بأننا جميعاً معاً، ولكننا في الحقيقة، فرادى، وحدنا، وكيف أن الصناعة الرقمية نجحت في برمجة سلوك الناس وفق ما تودّه الآلة الاستهلاكية، فلم تعد معطياتنا الرقمية ملكاً لنا. لقد سُرقت منا أو نحن من وهبها ل «غوغل» و«فيسبوك» وسواهما، ونحن من يزود هذه الشبكات يومياً بمعلومات عنا، فوضعنا مصائرنا وحريتنا بين أيدٍ رقمية تلتقط كل شيء يخصّنا، ويعرف أصحابها كل شيء عنا: سلوكنا وعاداتنا ورغباتنا وآرائنا.