ضحك الفراغ من سخط الحياة، واستحق البوح لخواء الذات بسرّ المشاعر الدفينة في ظلمة الوحدة، فكتبت جنان خاشوف قصة “حبّة خلاص” التي صدرت عن منتدى المعارف، علّها تستعيد البريق المؤجَّل لعيني كلّ امرأة شرقيّة تنتظر على حافّة القلق أو الارتحال…
نساء مثقلات بالرّغبات المحطّمة، تساؤلات وهواجس وتمنّيات، ردّدتها الصفحات خلال دزّينة من الفصول، وصفت فيها جنان اندثار النشوة في هلوسات الحياة الضالّة. دخلت بطلة القصّة في الوقت الضائع، فماذا انتظرت على رصيف الاكتئاب عند الطبيب النفساني؟: “فيما تزاحمت مريضاته السابقات على المناديل، تشاركنَ تشخيصًا واحدًا بالاكتئاب.”
هذه البطلة هي نموذج عن نساء الشرق المحكوم بالتقاليد والرغبات الذكوريّة الطاغية، مقابل الرغبات الروحيّة المكبوتة عند النساء الطامحات، بحكم ميلهنّ إلى الرومانسيّة أكثر من الرجال. لكنّ ريم بطلة القصّة أرسلت جسدها إلى حيث تأوي المشاعر الدفينة في ظلمة الوحدة بالرغم من زهو الحياة، كفراشة في شرنقة لم تخرج من الخيوط المنسوجة حولها.
غريب هذا الشرق المتمترس خلف قناع مجتمع لم يتآلف مع مشاعر تهتاج حقارة عند سماع صوت أنثى، وتتلعثم مبادئ في لحظة سحر امرأة، بالرغم من فرض هذه المبادىء باسم الدين والقانون. “غريب عالم الرجال! بضعة ألوان ويتحوّل الشارع الذكوريّ إلى خدم الإمبراطورة ريم.”
عندما كتبت جنان كانـت تشغل بالها قضايا محيطها ومشكلاته الاجتماعيّة، فهي لم تكتب نفسها كقاصّة، بل باحت بما يختلج به صدرها من لوعتها على نساء مجتمعها. لكنّها ألقت الضوء على الأمور حتى ولو لم تجترح الحلول، وقد تمتّعت بقدرة سرديّة جاذبة للقارئ الذي يحسّ غالبًا أنّ النصوص هي هواجس ذاته. فالكاتبة وصفت الحياة الزوجيّة الشرقيّة جهرًا على الورق، وقد انتزعتها من سرّ شبه معلَن. بعثرت وداعة النساء وهنّ في كامل الطمأنينة، وجعلتهنّ يلتقطن الأسف على حياتهنّ من الحبر المسكوب لوعة على السطور: “الحبّ هو عندما تفقدين أعصابك، فلا يتحوّل إلى رجل لتربيتك، الحبّ هو عندما يعلم سائر أسرارك السوداء ولا يستغلها يومًا لتحجيمك.”
بطلة القصّة مثقفة، متعلّمة، ناشطة في عدّة مجالات، حتى ولو كانت تعمل في غير اختصاصها. لكنّها في كلّ مرّة تنام في سرير الزوجيّة، كانت الوحدة تغتصبها، من دون أن يعلم زوجها ما تعانيه معتقدًا أنّ الأمور تسير على ما يرام في السرير وداخل المنزل: “تتجمّع مقادير النهار لأطحنها بصبر وجبةً من الشرود، طبقًا يؤكد عدم انتمائي.” هذه البطلة ملأت الصفحات هاربة من الداء، خارجة من جغرافية المخدع الزوجي، حيث أنّ كلّ امرأة مهملة، مشروع شهيدة حيّة فداءً لصفوة الروح، مصطدمة بجدار شوك نبت على ضفاف عالمها الذي غادر فضاءَه القمر وأصبحت لياليه ظلماء.
كتاب أبحر في يمٍّ من التناقض بين عادات المجتمع والمعتقدات البالية، مقابل العلم والوعي. كان كلام طبيب النساء مغايرًا لوصفات صادرة عن جمعيّة طبيّة نسائيّة تقليديّة تؤمن بالخرافات والتقاليد، قال: “اذهبي واستمتعي بكلّ دقيقة حبّ، اتركي كلّ الكتب، وكلّ الأسئلة وأحبّي”. فقد كانت تخاف أن تجتاز هذه العتبة المسمّاة الحمل: “لا أدري لماذا استنتج دماغي المتقدم أنّ الحياة بعد هذا اليوم لن تكون كما قبله.”
حدّدت الكاتبة معنى الخيانة في ظلّ انتزاع الفرح أينما حلّ، وافترش القلب المعاني السامية محاولًا احتضان الحنين. لكنّ الارتياب جعل الكلمات تصدر أوهامًا ولا تنتظر في محطّات الحياة: “فهل فرَضًا إن تاه زوجي داخلي عشقًا، بحثاً اوتنقيبًا، ونسي عندي سلاحه وأطلق سرب الورود، فيما يتخيّل هيفاء وهبي ويعصر صدرها. هل هذه خيانة؟” هنا تحضرنا آية من الكتاب المقدّس: “من نظر إلى امرأة ليشتهيها زنى بها في قلبه.” (مت: 5-28)
يتساءل القارئ طالما وصفت الكاتبة شعور النساء، هل أن شعور الرجال مطابق لمشاعر نسائهم؟ وهل أن الحبّ واللامبالاة متبادلان؟ وهل الكاتبات يستعطفن الجماهير لتحطيم الرقم القياسي في موسوعة (غينس) للحزن والبؤس: “لقد أحببت زوجي حقًا، لم أقع في حبّه… أحببته لانعدام توازني وتوازنه الذي يكفينا معًا ويزيد…” فلا انسجام ولا تنافر كشعور (مورسو) بطل رواية الغريب للكاتب العالمي (ألبير كامو) الذي منعته قوّته من الخوف لمجرّد أنّ الحياة بلا معنى، فقد عاشها من خلال الرواية بسلاسة، غير آبه للحبّ والكراهية والفرح والحزن.
علّمتنا الكاتبة كيف نغلق العيون التي تسيل الدمع بالخفية، كلّما أهدر الأزواج القرب من الروح بالتصاقهم بالجسد، من أجل لذّة زائلة بزوال متعتها. لكنّها لم تعلمنا كيف يلتفّ الحزن على زوج احترق كفّارة عن ذنب زوجته، وصمتت عن ذنبه بالرغم من أنّها لم تكن أوّل اهتماماته، محتفظة بحسرة داخلها جعلتها غير مبالية بمسير ومصير حياة، هاربة إلى ساعة نوم في عطلة نهاية الأسبوع. لكن الأولاد لا ينامون ولا يدعون أحدًا ينام، بينما الزوج يمارس هوايته. يقول شارلي شيد في كتاب (رسائل إلى فيليب): “إنّ الزوجة تتجاوب مع زوجها دائمًا، كلّ يوم، كلّ أسبوع، طوال السنة، وباستمرار، بلا استثناء، أي مئة في المئة، إذا كانت تعرف أنّه يُحلّها في المكان الاوّل من اهتمامه.”
قصّةٌ، كُتبت في ظروف صعبة وبِالتزام عميق، فجعلتنا ندرك خفايا عذاب الارواح عند النساء المهمَلات. ليتحسّن سلوك المتزوّجين بعضهم مع بعض. وهذا ما يفعله معظم من تزوّج وقرر الحفاظ على زواجه. كما ورد في الكتاب ما يعبّر عن اللوعة على الوطن ومفهوم الشهادة: “ويكلّل انتحاريٌّ، مغسول الدماغ لاهثًا وراء حور عين، بحظوة الشهادة.”
كيف نبتعد عن حقيقة أعماقنا وجميع ما كتبته جنان خاشوف حاضر في مجتمعنا يوميًّا؟ عند وصفها التحرّش بابنة أربع سنوات، تتأكّد أنّ جميع الشرق يسير في هذا الكرنفال بفشل ذريع، مبتعدًا عن أمور يجب أن نتعلمها بشكل أفضل في السكون، وأمور أخرى تصقلها العواطف. فلو تكلّمت الطفلة المتحرّش بها ربّما كان كلامها شبيهًا بما ورد في قصة (صمت النواقيس) للكاتبة التونسيّة فتحية دبش: “أطرقت وأنا أشرب حليب الصباح، تباطأت وتكاسلت، ورغم ذلك، حرصت أمّي على ألّا أتغيّب عن الحصّة. عندما وصلنا كان ألم حادّ يمزق بطني، وأطرافي تفور حرارة… قلت لأمي إنّني لا أريد أن أدخل خلوة الأب راؤول…”
قصّة من رحم الواقع، كتبتها أمّ وزوجة، عيناها على الواقع الإنسانيّ، في حين أنّ قلوبًا تنبض بالالتزام مع شريك الحياة رغم الوحدة النفسيّة القاتلة، مضمّنة القصّة خبرة واسعة، تحليلًا لمواقف النفوس البشريّة بقوّتها وضعفها. كما حمّلتها إضاءة على جميع النواحي، وخاصّة الأمور الصغيرة التي تعني آمالًا كبيرة، ولم تغفل شيئًا من دقائق الواقع.
هذه القصّة وضعت السّعادة خارج إطار الممارسة الحياتيّة. فضحت السائرين بكلّ قداسة المحتشمين، على الدروب الملتوية الحائرة بين العشق المراد والواجب المفروض. ملّت بطلتها اجتراح الأمل، سئمت أحلامها في الأعماق خاضعة لواقع متهالك، فأصابتها لعنة التقاليد، التي يتسلّح بها الذكور، وجعلتها نكرة ولا مبالية بفرح الحياة، رغم لامبالاة زوجها وعلمها وانفتاحها على الحداثة.
مقال من كتابي “قراءات فلّاح” الصادر ضمن منشورات “منتدى شاعر الكورة الخضراء” ومتوّفر في مراكز جمعية #كتاب_وقمح.
14/ 7/ 2020
المصدر: “النهار”