(الرواية تقرير مفصل صادق عن التجربة الإنسانية)[1].
“صموئيل ريتشاردسون”
رغم مرور قرنين على نشوء الرواية إلا أن الجدل حول تعريفها كجنس أدبي يظلُّ متفاعلًا، حتى في ظلّ ما يقال عن تسيّدها المشهد الأدبي وطغيانها على الأجناس الأدبية الأخرى. هذه الفكرة بقيت حاضرة لدي وأنا أقرأ سطور رواية (قبل أن يوصد الباب) للكاتب السعودي سعد الغريبي، الصادرة عن النادي الأدبي بالباحة بالمملكة العربية السعودية هذا العام.2023، والحقيقة أن نص هذه الرواية جعلني أعيد الكثير من القراءات حول نشوء الرواية ومدارسها، لأتمكن من الوصول إلى هذه القراءة.
- قبل أن يوصد الباب:
بقي هذا السؤال حاضرًا معي حتى انتهيتُ من قراءة نصف صفحات الرواية التي تستحضر ثنائية الحرب والهجرة من أول صفحاتها وحتى الختام، فما هو الباب الذي يوشك أن يوصد؟ وعمن؟ ولماذا يوصد؟ وكيف يوصد؟ أسئلة يستبطنها النص الزاخر بالدلالات الفلسفية العميقة، رغم ما يبدو عليه من واقعية غارقة في الوضوح.
بهذه العتبة الأولى يضع الكاتب نصه ضمن نصوص (واقعية القاع)، التي غادرت فيها النصوص الروائية الرومانسية الغارقة في خيال الأمل، إلى الواقعية التي ترسم الحياة بكل ما فيها من ألم وأمل.
عندما يتخلى الكاتب عن الغموض الذي أسبغه على عنوانها سيكتشف القارئ فلسفة الرواية كاملة، وهي عبارة عن سؤال يطرحه كلّ مغترب على نفسه: (إلى متى سأبقى بعيدًا عن موطني وأرضي؟). هذا السؤال الفلسفي العميق، يجيب عليه (أحمد قايد)، وهو يمني هاجر للسعودية ليعمل في قطاع إنشاء المنازل، لكنه يقرر بشكل مفاجئ العودة لبلاده بعد أن بلغ الخمسين، ويطلق حكمته التي ظلت ترنُّ في أذن بطل الرواية (حسين) حين سأله: (لماذا تعود وأنت تكسب الكثير من المال؟)، فيجيب: (سأعود قبل أن يوصد الباب).
- خيط الحكاية وبُنيتها:
يُحسب لنص رواية (قبل أن يوصد الباب) إمساكه بخيط الحكاية الذي شكل رواية تمتدّ ما بين فترة الستينيات من القرن الماضي حتى عام 2022، حيث تبدأ الرواية بمشهد حديث لمجموعة من الرجال في (جلسة قات) بمجلس الحاج (حمود منصور) بمدينة صنعاء، وذلك بالتزامن بين ترائي الناس لهلال شهر رمضان مع انشغال اليمنيين بالحرب الدائرة بين الجمهوريين والملكيين، ثم انشقاق الجمهوريين لتكون ذروة الأحداث بتلك الأيام بإقصاء عبد الرحمن الأرياني للسلال من الرئاسة. خيط الحكاية يمتد حتى الفصل الأخير من الرواية بإصابة (حسين حمود منصور أو حسين أحمد قايد) وهو بطل الرواية بفايروس كورونا في العام 2020 حيث يوصد الباب دون عودته لبلاده بعد أن صدر قرار تعليق السفر للمواطنين والمقيمين.
وبسبب طول خيط الحكاية – أكثر من 60 عامًا – فقد قسمه الكاتب إلى فصلين أشبه بروايتين وهما رواية: (الغربة الأولى)، ثم رواية: (الغربة الثانية)، وأضاف عليهما ملحق: (الفصل الأخير)، وقد حمل هذا التقسيم فرزًا منظمًا لشخصيات الرواية، وزمانها، وأماكنها.
- الغربة الأولى:
ففي الغربة الأولى يخرج الفتى ذي العشر سنوات تقريبًا وهو: (حسين) مهاجرًا بناء على اتفاق بين أبيه الحقيقي: (الحاج حمود منصور) الذي يتحدر أصله من قبيلة عريقة في اليمن، وصديقه: (أحمد قايد) الذي يعمل بقطاع الإنشاء، وبذلك ينتقل الفتى (حسين) من صنعاء إلى الطائف فيعيش باسم: (حسين أحمد قايد) بعد أنْ أضاف اسمه إلى جواز سفره، ويبدأ هناك بالعمل ببيع الجوارب، ثم ينتقل خادمًا بمنزل العم حمزة الذي كان أحمد قائد يشيّد له عمارة من ثلاثة أدوار.
بسبب عطف عائلة العم حمزة يتمكن حسين من الالتحاق بالتعليم ويتفوق حتى يصل للجامعة ويختار مدينة جدة فينفصل عن العمل بمنزل العم حمزة، وهناك يبدأ العمل في الصحافة، وتبرز موهبته كشاعر وأديب تلتفت له الأوساط الأدبية.
يصدم الشاب حسين بعد محاولته الزواج بأنه يعيش باسم غير اسمه، وتشكل محاولتان قام بهما صدمةً مدوية. كانت المحاولة الأولى من فتاة سعودية، وأما الثانية فكانت فتاة يمنية، لكنه يقابل بالرفض في المحاولتين بسبب أصله، فيتجه للتفكير في تصحيح الخطأ الذي ارتكبه أبوه وصديقه عن جهل منهما، فيعود لليمن بعد أن ينهي كافة التزاماته وأعماله وهناك يعمل على تصحيح اسمه ليبدأ حياته من جديد.
- الغربة الثانية:
في الغربة الثانية تبدأ حياته في اليمن بعد تحول اسمه إلى: (حسين حمود منصور)، لكنه يصدم بالبقاء عاطلاً فالحرب اشتعلت بين الشماليين والجنوبيين، فيقرر الغربة مرة أخرى، لكنه هذه المرة يختار العاصمة الرياض مقرًا لغربته، هربًا من ماضيه الذي تركه في الطائف، واسمه الذي يتردد على صفحات المجلات كشاعر معروف، ولأنّ شهادته الجامعية باسم آخر يبدأ العمل في الأعمال البسيطة كبائع للخضروات، لكنه سرعان ما ينجح في فتح مشروع لخدمة الطلاب وهو مشروع مناسب لشهادته دون أن يكشف سر تلك الشهادة التي حصل عليها بامتياز مع مرتبة الشرف، ومع التوسع في المشروع يختاره أحد أصدقائه كشريك في دار النشر التي يملكها، فيقترب أكثر من عالمه الذي قضى نصف حياته فيه حيث الصحافة والأدب والفعاليات الثقافية.
تتيح الظروف لحسين الزواج من (سميرة) متجاوزًا مصاعب الماضي الذي يلاحقه، لكنه يرتبط بهذه الفتاة التي أحبها بعد أن يكشف من ماضيه ما يشفي غليل الأب (يحيى)، لكن الظروف تعانده مرة أخرى بعد سنوات من زواجه حين تكشف الفحوصات بأنه غير قادر على الإنجاب، فتلزمه أسرة سميرة بطلاقها، فيعود وحيدًا، لكنه هذه المرة يفكر بالعودة إلى اليمن مستندًا لنصيحة أبيه غير الحقيقي: (قبل أن يوصد الباب).
تضيق الدائرة التي تفصل الغربتين حين ينشر أحد أصدقائه مقالًا يتحدث فيه عن الشاعر المبدع: (حسين قايد) ويطلب ممن يعرفونه أن يكشفوا عن مصيره، وتبدأ الشهادات تتوالى على الصحيفة لتضيق الدائرة على (حسين حمود) فيقرر تصفية جميع أعماله ليعود إلى صنعاء لكن الأنباء تتسارع وهو يكتب آخر فصل من فصول مذكراته ليتركها لشريكه: (عبد الخالق) لينشرها بعد وفاته، وبعد أن يقرر العودة يوصد دونه الباب لصدور قرار منع سفر المواطنين والمقيمين بسبب تفشي فايروس: (كورونا)، لينتهي الفصل الأخير بإصابة: (حسين حمود) بالفايروس.
- الرواية كنص ثقافي:
امتازت الرواية بأنها أثثت الزمان والمكان السردي، بحيث أنتجت نصًا ثقافيًا زاخرًا، يخرج القارئ منه بحصيلة ثقافية حول الأوضاع في اليمن، وعلاقة اليمن بالسعودية، وأثر الحروب المتعاقبة على الإنسان، وكيف مثلتْ السعودية خاصرة يتنفس من خلالها اليمنيون إذا أحكمت عليهم مشاكل بلادهم التي تتوالى دون توقف.
على الصعيد السياسي ستجد في حوارات الرواية موجزًا عن المواقف المختلفة للأطراف المتصارعة، وكيف يقف المواطن العادي إزاء هذه الصراعات، وكيف تؤثر الصراعات على حياة اليمنيين، فالناس تترك ترائي هلال شهر رمضان، لأنهم يرون ألا جدوى من ذلك فالجمهوريون لن يرضوا بما يقرره الملكيون، وسيبقى اليمن منشطرًا حتى في صوم رمضان، وقد أبدع الكاتب في تمثيل تأثر الشعب اليمني بنسج حبكة الرواية وهي طلب (حمود منصور) من جليسه (أحمد قايد) أن يصطحب معه ابنه ذي العشر سنوات إلى الطائف، وقبوله بإضافة الصغير لجواز قايد.
نُسجتْ بنية الرواية لتعطي صورة كاملة عن بلد تمزقه الحروب المتعاقبة، فالمأساة تقع على جميع الطبقات، حيث (حمود منصور) رجل ميسور الحال ومن قبيلة معروفة، و (أحمد قائد) رجل فقير يهاجر لطلب الرزق، لكن كليهما يشعر بالصواريخ التي تحلق على رؤوس الناس، ويمكن أن تخطف الأرواح بأي لحظة، لذلك يتفقان بكل بساطة على هجرة الفتى دون أن يتفقا على أيّ شيء سوى الفرار بالفتى بعيدًا عن مرمى الموت.
أضاءت بنية الرواية بشكل لافت على العلاقة التاريخية المتجذرة بين اليمن والسعودية، سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي، فاليمنيون يقيمون في السعودية بشكل استثنائي “كمواطنين”، إذ يمكن لأي يمني أن يعمل في أي منطقة أو مدينة، وبأي قطاع، وهم يجدون في المجتمع السعودي حاضنة تجعلهم يمارسون أعمالهم وينجحون فيها بكل يسر وبساطة، لكن ذلك الوضع تغيّر حينما وقف الرئيس السابق علي عبد الله صالح مع ما عُرف بدول الضد إبان غزو العراق للكويت عام 1990، إذ فرضتْ السعودية على اليمنيين شرط الكفيل للإقامة على أراضيها.
أبدع الكاتب في رسم نسيج العلاقة المتشابكة والعميقة بين الشعب اليمني والسعودي، فهي علاقة أخوية عميقة ومتجذرة، كما في علاقة العم حمزة بأحمد قايد، فعلاقتهما علاقة مودة وتعاطف رغم إنها بدأت بعلاقة عمل.
ومثلتْ علاقة عائلة العم حمزة بمن فيهم زوجته وأبناؤه بـ (حسين قايد) حيث عاملوه كأخ لهم رغم إنه كان يعمل بأجر لديهم، وكانت هذه العلاقة هي السبب الذي جعل العم حمزة يقترح على الأب غير الحقيقي أن يدخل ابنه للمدرسة؛ وحرص الكاتب على بيان أن العلاقة بين اليمني والسعودي ليست علاقة عمل فحسب، فأحمد قايد يشيّد بناية للعم حمزة، لكن الزيارة بينهما في المناسبات والأعياد تبقى حتى بعد انتهاء العمل.
وكما سبق وبيّنت بأن الرواية تنتمي لروايات القاع التي تضيء على ما وراء الواقع وتداخلاته، فهي لا ترسم صورة وردية للعلاقة بين اليمني والسعودي، فرغم التلاحم والتآخي إلا أن الحواجز الاجتماعية تبقى مفروضة، فمحاولة (حسين) اليمني خطبة (جواهر) ابنة أستاذ التاريخ في الجامعة رُفضتْ بعد أن بحث ذلك الأستاذ في أصله ونسبه، فاتصل بحسين بالهاتف وقال: “كيف لا يدري شاب جامعي وصحفي مثقف مثلك أن أول شروط الزواج كفاءة النسب؟ أنسيت من أنت؟ أو تظن أنك صرت ابن الشيخ حمزة بمجرد أن عملت عنده صبيًّا؟”. (صفحة102). إن النسب ليس الجنسية كما أوضح الدكتور عبد الرحمن: إني أعرف القبائل اليمنية، كما أعرف القبائل السعودية، لقد بحثت عن أصل أسرتك، وعرفت أنك لست قبليًّا. ابحث عن أسرة مماثلة لك سواء من السعودية أو غيرها”. (صفحة 102).
- ما وراء الحرب والغربة:
تمكن الكاتب من إنتاج الكثير من الصور الإبداعية من خلال خيط الحكاية الذي يتأرجح بين الحرب والغربة، فهل لك أن تتخيل كقارئ إنسانًا لا يستطيع البكاء بعفوية على موت أمه مع من يعيش معهم؟ هل هناك إيحاء أبلغ من هذه الصورة المزلزلة للروح الإنسانية، فـ (أحمد قايد) يضطر للكذب على العم حمزة ليأخذ (حسين) لعدة أيام بهدف إبلاغه بخبر وفاة أمه (فاطمة)، فهو لا يستطيع إبلاغه على مسمع من العم حمزة الذي يعرف أن أباه أمامه، وأن أمه (صباح) التي تسكن معه في الطائف، وحين يبلغه بالخبر يشعر بالألم فيبقى باكيًا ليومين، وحينها أدرك معنى أن تعيش باسم غير اسمك فقال: “لقد أخطأ أحمد قايد حين أبلغه أنه أبي، وأن أمي تعيش معه في مدينة الطائف نفسها التي أسكنها، وأنها لا تبعد عني إلا بضع دقائق بالسيارة”.
وكأن الحرب لا تكتفي بدفع الناس للغربة فهي تستنزف الإنسانية التي تملأ دواخلهم، فهم يتخلون عن نسبهم وأسمائهم وشهادتهم فيظل ذلك النزيف يعتصرهم، ويمعن في غربتهم.
لقد بدت معرفة الكاتب سعد الغريبي باليمن وأهله واضحة جلية، فقد ضمن نص الرواية صورة دقيقة عن العادات والتقاليد، وجاءت الأسماء التي تضمنتها الرواية موحية لثقافة هذه البلاد.
[1] صموئيل ريتشاردسون. 19 أغسطس 1689 ـ 4 يوليو 1761. أحد رواد الرواية الواقعية الشكلية في القرن الثامن عشر. مؤلف روايتي (باميلا) و (كلاريسا).