كنت حين أذكر اسمه، أرفقه بدعاء: أطال الله عمره.
واليوم، بعد عشر سنوات رحيله، أضرع إلى الله أن يطيل بعمر عطره.
وسيطول… وها هي المؤسسة التي نشأت على اسمه، تتهيأ لإصدار ما تركه مخطوطًا، أي 23 كتابًا، تضاف إلى عدد مماثل من الكتب التي نشرها، خلال حياته.
ولكن ما قصَّة العطر؟
لعلَّه المفردة الأكثر حضورًا في أدب سعيد عقل، نثرًا وشعرًا، والتي تجلَّت، أكثر ما تجلَّت، في رائعته “حكاية الحلوايي”، من ديوان “يارا”، وقد تحوَّلت أغنية من إبداع الأخوين رحباني، بصوت فيروز… “دقَّ” الباب، أطلَّ عليه الورد، ماتت “الحلوايي” الَّتي روت، ذات ليلة، حكاية طويلة… فقالت: “حلوي أنا”، وخلصت الحكاية.
“ودقَّيت عَ الشِّبَّاك بَعْد سْنينْ
شِفْتو نْفَتَحْ، كيفْ شِكْل، بَعْدَكْ هَوْنْ
قال: علَّمِتْني حِلْوة الْحِلْوينْ،
نْ فِلَّيْت… إِتْرُكْ عِطْر بِهَـ الْكَوْنْ”.
هذا كلام الورد، ووصيَّة “الحلوايي” له، فهل أجمل من قصيدة سعيد عقل، لتوصيه بأن يترك عطرًا في هذا الكون، إذا ما رحل؟ وقد غادر هذه الفانية في 28 تشرين الثَّاني 2014، ليطبع قرنًا كاملًا بحضوره وتأثيره.
هذا هو سعيد عقل العطر، وقد عُدَّ الأديب الوحيد في التَّاريخ الَّذي تجاوزت سنُّه المئة، وبقي يؤلِّف ويبدع. وما خلَّفه لنا من أعمال، كتبًا ومحاضرات، والكتب الثَّلاثة والعشرون الَّتي لم تطبع في حياته، وستصدر تباعًا، ستبقي هذا العطر خالدًا.
ولكن… من هو سعيد عقل؟
هو أحد أكبر الشُّعراء المعاصرين إن لم يكن أهمَّهم. فحضوره على السَّاح الشِّعريَّة في لبنان والدُّول العربيَّة والعالم كان طاغيًا منذ نشر أوَّل قصيدة، أو أوَّل ديوان.
ولد في زحلة في 4 تموز 1912، (وثمَّة وثيقة تقول 1908) وتلقَّى علومه في مدارسها، لكنَّه لم يكمل تحصيله العلميَّ، فتوقَّف في المرحلة التَّكميليَّة، إلَّا أنَّه عوَّض ذلك بتوفُّره على القراءة في مكتبة ضابط فرنسي كان يعيش في زحلة، جارًا للعيلة، والتَّثقُّف على نفسه. شجَّعته على ذلك أمُّه الَّتي يكنُّ لها محبَّة استثنائيَّة جعلت نظرته إلى المرأة من خلالها نظرة تقديس. عيلته كانت شبه ميسورة ووالده كان كريمًا إلى حدِّ التَّبذير، فأخذ عنه سعيد عقل كرمه وعطاءه من دون سؤال.
بدأ ينشر الشِّعر، مطلع الثَّلاثينات من القرن الفائت، في صحف ومجلَّات زحليَّة، باللُّبنانيَّة والعربيَّة. فسبقته شهرته إلى بيروت الَّتي كانت تتشكَّل فيها حلقة وعي أدبيٍّ وثقافيٍّ مهمَّة، ووُصف شعره الأوَّل بأنَّ فيه ملامح إبداع.
سجن العام 1935، في “حبس الرَّمل” في بيروت، لإلقائه خطابًا هاجم فيه الانتداب الفرنسيَّ.
أسَّس، في تلك المرحلة، في زحلة مدرسة “مار أفرام”، واستمرَّت عشرة أعوام. وبدأ يهتمُّ بالتَّعليم وبالشِّعر الَّذي تفرَّغ له منذ الأربعينات، حتَّى كان ديوانه الأوَّل “بنت يفتاح” وهو مسرحيَّة شعريَّة من وحي شخصيَّات توراتيَّة، العام 1935، ثمَّ رائعته الشِّعريَّة المسرحيَّة “قدموس” العام 1937، وقد بدا تأثير الشُّعراء الفرنسيِّين الكلاسيكيِّين في هذين العملين، ولا سيَّما منهم بيار كورناي.
في تلك الحقبة احتلَّ سعيد عقل موقع الصَّدارة في الشِّعر، خصوصًا أنَّه أسَّس مدرسة في الأسلوب واللُّغة والتَّوجُّه، عرفت بالمدرسة الرَّمزيَّة الجماليَّة، وتبع أسلوبه وتأثَّر به كثيرون.
ولم يكتفِ بالشِّعر، بل وسَّع إطلالاته إلى اللُّغة والألسنيَّة والسِّياسة والفكر والفلسفة واللَّاهوت والفنون، حتَّى كوَّن لنفسه تلك الهالة من الاحترام والحضور في مفاصل الحياة الثَّقافيَّة اللُّبنانيَّة.
إلى التَّعليم في مدارس وجامعات، عمل في الصَّحافة، وكان يكتب، مثلًا، عمودًا في صحيفة “لسان الحال”، يدفع له صاحب الجريدة جبران حايك عن كلِّ كلمة فيه، ربع ليرة، ثمَّ نصف ليرة. وكان مبلغًا ذا قيمة كبيرة في السِّتِّينات والسَّبعينات من القرن العشرين. واشتهر بإلقاء المحاضرات، ومجموعها في سجلِّه أكثر من أربعة آلاف، خصوصًا في “النَّدوة اللُّبنانيَّة”، وقد سوَّق خلالها لأفكاره في مختلف العلوم والقضايا الَّتي عالجها واهتمَّ بها.
وبين العامين 1944 و1960، نشر خمسة كتب، ثلاثة منها دواوين شعر، وهي: “المجدليَّة”، و”رندلى” الَّذي يُعدُّ أوَّل ديوان غزليٍّ كامل باللُّغة العربيَّة في التَّاريخ، و”أجمل منك؟ لا”، وإثنان نثريَّان: “غد النُّخبة” و”لبنان إن حكى” أكثر كتاب لبنانيٍّ انتشارًا.
والعام 1961 كانت ثورته اللُّغويَّة في ديوان “يارا” الَّذي صاغه باللُّغة اللُّبنانيَّة وبالحرف الفينيقيِّ – الجبيليِّ، أو ما يسمِّيه النَّاس الحرف اللَّاتينيَّ، فقوبل برفض من بعض الأوساط الثَّقافيَّة والسِّياسيَّة على خلفيَّة موقفه السِّياسيِّ الرَّافض للعروبة والقائل بالقوميَّة اللُّبنانيَّة. لكنَّ ذلك لم يثنه عن استمرار تطوير هذا الحرف الذي شاءه تكتب به كل لغات الأرض، لأن “الأبجديات كلها مريضة”، والتَّبشير بتلك اللُّغة، فنشر فيهما لاحقًا وعلى التَّوالي منذ العام 1979: “خماسيَّات”، “القدَّاس الحبرويَّ”، “عشتريم”، وله فيها أيضًا “الوثيقة التَّبادعيَّة” و”آيات وصور” ومجموعات أخرى، قيد الطَّبع. كذلك أصدر بهذه اللُّغة وبذلك الحرف مجموعة كتب من الرَّوائع العالميَّة مترجمة إلى اللُّبنانيَّة، منذ العام 1967، ضمن دار نشر أسَّسها هي “أجمل كتب العالم”، ومن الكتب الَّتي أصدرها: “دفاع سقراط”، “روميو وجولييت”، “مرجوحة القمر”، “شقف من النَّهج”، “الإنجيل”، “آمال لافونتين”.
وعلى الرَّغم من ذلك، استمرَّ ينشر باللُّغة العربيَّة، ومن كتبه النَّثريَّة منذ العام 1961: “كأس لخمر” وقد جمع فيه مقدِّمات وضعها لكتب كثيرة، و”كتاب الورد”. ومن دواوينه الشِّعريَّة: “أجراس الياسمين”، “قصائد من دفترها”، “دلزى”، “كما الأعمدة”، “خماسيَّات الصِّبا”. وقد صدرت، العام 1991، كلُّ أعماله باللُّغة العربيَّة في مجموعة من سبعة أجزاء، عن “دار نوبليس”، إلى أن أصدر العام 2001، ديواني: “نحت في الضَّوء” و”شرر”، الأوَل يضم قصائد ألقاها في مناسبات كثيرة، والثَّاني رباعيَّات شعرية نشر معظمها في جريدة “السَّفير” الَّتي كان يكتب فيها عمودًا في الصَّفحة الأولى، نحو خمس سنوات.
لا بل نظم ديواني شعر بالفرنسيَّةL’OR EST POEME وترجمته “الذَّهب قصائد”، وSAGESSE DE PHENICIE وترجمته “حِكم من فينيقيا”، فضلًا عن كتاب نثريٍّ عنوانه PRELUDEوترجمته “تمهيد”، وهو عبارة عن مجموعات مقدِّمات لأدباء معاصرين.
أسَّس جائزة شهريَّة، العام 1962، استمرَّ في منحها لكتَّاب وفنَّانين، حتَّى العام 1976، وقد أوقفتها الحرب، وكانت قيمتها المادِّيَّة ألف ليرة لبنانية، ناهيك بقيمتها المعنويَّة. ومنذ العام 2001، راح يمنح مليون ليرة لبنانية أسبوعيًّا، جائزة لعمل أدبيٍّ أو فنيٍّ أو لـ “كلمة ملكة” تنشر في كتاب أو في صحيفة أو تقال في خطبة أو في حديث.
انخرط في الشَّأن السِّياسيِّ، وأسَّس جريدة “لبنان”، الَّتي صدرت باللُّغة العربيَّة ثمَّ باللُّغة اللُّبنانيَّة وبالحرف العربيِّ، ثم باللُّغة اللُّبنانيَّة وبالحرف الَّذي اخترعه.
ترشَّح إلى الانتخابات البلديَّة في زحلة، ثمَّ النِّيابيَّة، في الخمسينات، ولم يوفَّق. ثمَّ أعلن ترشُّحه إلى الانتخابات الرِّئاسيَّة العام 1976، وقدَّم مشروع حكم وعمل، ضمَّنه في ما بعد في كتابه “الوثيقة التبادعية”، ثمَّ جعل تلك الأفكار عقيدة لحركة سياسيَّة فكريَّة سمَّاها “الطَّليعة التَّبادعيَّة”.
كتبت عنه عشرات الدِّراسات والأطاريح الجامعيَّة، وتُرجم شعره إلى الفرنسيَّة والإنكليزيَّة ولغات أخرى. وغنَّت فيروز من شعره، 29 قصيدة، وغنَّى له آخرون، منهم وديع الصَّافي وماجدة الرُّومي ورونزا. وكان مقرَّبًا من الأخوين عاصي ومنصور رحباني اللذين يعدَّانه أستاذهما في الشِّعر والمسرح والجمال، وكان في منزلة مستشار لهما في أعمالهما الفنِّيَّة الكثيرة هو والمسرحي اللُّبناني جورج شحادة والمؤلِّف الموسيقيُّ اللُّبنانيُّ الأرمنيُّ بوغوص جيلاليان والموسيقيُّ الفرنسيُّ روبيار والصَّحافي والشَّاعر أنسي الحاج والإعلاميُّ والمخرج الفلسطينيُّ الأصل صبري الشَّريف.
تغنَّى بعواصم عربيَّة أحبَّها وأحبَّ شعبها، ولا سيَّما منها دمشق، ولحَّن له الكبير محمَّد عبدالوهاب “مرَّ بي”، بأداء فيروز، وله قصيدتان في مكَّة وعاشوراء، تعدَّان من أجمل ما كتب في هذا الإطار.
هذه سيرة مختصرة لرجل اقترن اسمه بلبنان وعظمته، وكان سنديانة كلمة تفيَّأها كثر، وسيبقى فيئُها، كما عطره، ملجأ وسكينة إلى أجيال وأجيال.