في مثل هذا اليوم، التاسع من شهر شباط، من العام ١٨٨٦، ولد، لآل عبّود في ” عين كفاع”، صبيٌّ جلب اسمَه (مارون) معه؛ كيف لا وقد حلّ في ربوعهم يوم عيد أبي الطائفة المارونيّة، وجدّاه، لأبيه وأمّه، كاهنان على مذابحها؟
إقرأوا ” وجوه وحكايات”، ففيه أعمل خياله في وصف يوم مولده، وكأنّه كان بكامل وعيه يسجّل حركاتِ النسوةِ وردودَ أفعالِهنّ، قال: “ولو عرفت أنّ نساء القرية في انتظاري، وأنّي سأُعرضُ عليهنّ واحدةً واحدةً لهربت. ولكن، أين المفرّ؟”، حيث بلغ ما يسمّى مضحك العبث، أو مضحك اللامعقول.
وقد اختصر، في مطلع النصّ، جدليّة العلاقة الإشكاليّة ما بين الفرد والمجتمع بقوله:” أصبحت عبدًا للناس منذ تصوّرت في البطن… ضايقني فضولهم”…
لازمتِ الفكاهةُ وما يتفرّع عنها من ضحك وسخرية… أسلوبَ مارون عبّود وطبعته بطابعها؛ فهل منكم مَن لا يذكر وصفه لمعّاز الضيعة:” رأسه كالبطّيخة، وحول أنفه الأفطس بثورٌ زرقاءُ كأنّها طلائع الزنجار في ذلك الوجه النحاسيّ المفلطح، مفركح ٌ، أفرم…
وقد وظّف الضحك في خدمة غاياته الأدبيّة، والتزامه.
ولعلّ البراعة في الوصف أهمّ ما يميّز أسلوبه، خصوصًا أنّه كان يتسنّم ناصية اللغة العربيّة، فأضفى، على ما أبدعه، الطلاوةَ، والنداوةَ، والرشاقةَ، إضافة إلى متانة الصياغة اللغويّة، وعمق الدلالة، ومزج العامّيّة بالفصحى، عند اللزوم.
نوّع مارون عبّود نتاجه الأدبيّ الذي يربو على الستّين كتابًا، فكتب في الرواية، والقصّة القصيرة، والمقالة، والنقد الأدبيّ… وتميّز في كونه أكثر أدباء عصره تمثيلًا لبيئته اللبنانيّة الجبليّة، دبّج بوحيها أجمل اللوحات الوصفيّة، وصوّب سهام نقده عليها لإصلاحها، وإبعاد الخرافات، والمعتقدات الباطلة، عن نفوس أهلها، ولم يقف منها موقفًا رومنسيًّا مائعًا.
كلّما قرأت مارون عبّود:
أتذوّق حلاوة ما خطّته يراعته، كلمةً كلمة، ولا يندر أن أقع على جديد مدهش.
أجول معه في أجواء عين كفاع، نموذج القرية اللبنانيّة الجبليّة، وأعرّج على علّيّة قدّيس الضيعة، الخوري نصرالله، وأشمّ رائحة زلابية الخوريّة (دايم دايم)…
أسترجع وجوه الشخصيّات التي خلّدها في “وجوه وحكايات” و ” أقزام جبابرة”… وأقدّر براعته في رسم ملامحها، والتوغّل في حناياها.
أتخيّل ” الأمير الأحمر” بكلّ مساوئه، وأعتبره نموذجًا للحكّام في الدول النامية.
أستعيد صورة ” فارس آغا” الذي يُعتبر مثالًا لمأموري الدولة( عبد مأمور) الذين ترعاهم سلطة متسلّطة همُّها بلصُ الناس، وغرسُ الرعب في نفوسهم.
أستذكر لوحة ” أبو نعّوم” ، العصيّة على النسيان، وهو الذي ” فات التسعين بضع خطوات وظلّ يروح ويجيء… لم تهرهرِ التسعونَ جدرانَ بنيته الشامخة. هيكلٌ ضخم أحكم بنيانَه مُناخُ قريته الجبليّة، فكأنّما استُعيرت موادُّه من صخور ضيعته السمراء…
أستلذٌّ “وَقْعَ حوافر القطيع عائدًا عند الغروب، فهو كحفيف أوراق الخريف الصفراء، وكتساقط المطر على السطوح في الليلة الخرساء”، لمن لا يعلم…
هنيئًا لكِ، يا عين كفاع، فقد رفعك مارون عبّود معه إلى أعلى الذرى!
⁃ ولكن، أين تقع عين كفاع هذه التي تهنّئها؟
⁃ لا تتعب نفسك في البحث عن موقعها على الغوغل، ففي كلّ بيت يقتني أربابه كتابًا من كتب مارون عبّود، ويقرؤونه، تقع عين كفاع، بأجلى صورها.
وهنيئًا لكلّ قارئ أصيل نهل من معين ابنها البارّ!
٩ شباط ٢٠٢٤