القريةُ الجبليّةٌ السّاحرةٌ منشغلةٌ بورشةِ عملٍ تكادُ تستحوذُ على جميعِ أفرادِ الأسرةِ، وربّما يطغى ذلك على أعمالٍ أخرى، أو يُرجئ بعضَها الآخر.
وها قد أتانا الربّيعُ ضاحكاً مُستبشراً واعداً بمواسمَ سخيّةٍ، تكونُ زاداً لأيّامٍ عجافٍ، تكادُ لا تخلو منها أسرةٌ. وبدا وهو يختالُ في الحقولِ يزرعُ الورودَ، ويعلو الأغصانَ، فيكسوها خضرةً يانعةً، تُصفّقُ أغصانُها كلّما هبَّ النّسيمُ، أو حطّت عليها الطّيور. أشجارُ التّوتِ التي تطغى بعددِها على كلّ الأشجارِ لبسَتْ هي الأخرى رداءً سندسيّاً أخضرَ قشيبّاً، وبدتْ أوراقُها النّديّةُ لامعةً تحتَ أشعّةِ الشّمسِ المُشرقةِ، والتي ألقتْ بتحيّتِهَا الدّافئةِ، فأيقظتْ شعوراً بالحركةِ، والتّفاؤلِ، وربّما السّعادةِ بعد أن احتجبت أيّاماً ولياليَ طويلةً في أشهرِ الشّتاءِ الباردة.
العائلةُ هذا الصّباحِ المنيرِ في زيارةٍ وديّةٍ لحقلٍ قريبٍ عامرٍ بأشجارِ التّوتِ الأبيضِ، وقد اعتلى بعضُهم ظهورَها يفرطونَ الورقَ الغضَّ ويلقونَهُ على شرشفٍ نظيفٍ ليقومَ آخرونَ بجمعِهِ وحملِهِ ليكونَ زاداً مُقدّساً يقدَّمُ يوميّاً ولخمسةِ أسابيعَ على مائدةِ دودةِ القزِّ، حاملةِ الأسرارِ العميقةِ، وكنوزِ الودائعِ النّفيسةِ. أوراقُ التّوتِ تفرمُ فرماً ناعماً يُناسبُ أفواهَ اليرقاتِ الصّغيرةِ، وقد فقست لتوِّهَا من بيوضٍ حُضنت زمناً محُدّداً بحرارةٍ ورطوبةٍ مُلائمتين. العملُ الدّؤوبُ لا يُخفّفُ من وطأتِهِ سوى بارقةِ أملٍ بموسمٍ وفيرٍ وواعد.
وها هي الدّيدانُ في طورِهَا الأوّلِ تنُقلُ بلطفٍ وخفّةٍ على أوراقِ التّوتِ لِتلقي بنظرِهَا على عليّتِهَا الجديدةِ،
بحجراتِها المربّعةِ على عوارضَ خشبيّةٍ وقد شغلت أو تكادُ مساحةَ البيتِ التّرابيِّ الواسع، واستقرّت أخيراً على فرشٍ خضرٍ رطبةٍ ضمن صوانٍ أُعدّت بطريقةٍ ذكيّةٍ من مواد طبيعيّةٍ لتغدو خفيفةً رشيقةً مُستديرةً ذاتَ حوّافٍ واقيةٍ تُدعى “الكرينات”، تُحملُ وتُنقلُ ويُعادُ توزيعُ دودِ القزّ عليها كلّما كبرت وازدادت شراهتُها للطعّام. أجل إنّهُ طعامٌ واحدٌ، لا ترضى عنه بديلا.
ولكن ما الذي حدث هذا اليوم؟! ولماذا لم يُقطفِ الورقُ أو يُفرم؟! إنّهُ النّاموسُ الأبديُّ الذي يحكمُ الكائناتِ ويُملي عليها سلوكاً تلتزمُ بكلِّ آدابِهِ وطقوسِهِ. دودةُ القزِّ تمرُّ الآنَ بفترةٍ من النّسكِ والتعبّدِ لتسلخَ جلدَهَا القديمَ مُستبدلةً به ثوباً جديداً أكثرّ بياضاً وألقاً. وهكذا تنسلخُ مرّاتٍ أربعَ، وفي كلِّ مرّةٍ تدخلُ في حالةٍ من الصّيامِ لمدّةِ يومين. مُربّو القزِّ يُوزّعونَ ورقَ التّوتِ المفرومِ خشناً أربعَ مرّاتٍ يوميّاً لتتغذّى به هذهِ الدّيدانُ العجيبةُ، وقد توزّعت على بشرتِها البيضاءِ بقعٌ سودٌ لامعةٌ بدت وكأنّها شاماتٌ تزيّنُ خدودَ العذارى. بل إنّها استطالت وانتفخت وظهرت أشواكٌ على جوانِبِها، فبدت وكأنّها عجلاتٌ مُتناهيةُ الدّقةِ تتحرّكُ عليها، وتعتلي بواسطتِهَا سريرَها الملكيَّ من أغصانِ الشّيحِ الغضّةِ. وتبدأُ تحيكُ شرانِقَها بحركةٍ دؤوبٍ ذهاباً وإياباً على هيئةِ رقمِ ثمانية وقد انقطعت كليّاً عن الطّعام، وستظلُّ على هذا المنوالِ أسبوعاً برمّتهِ. موسمُ تربيةِ القزِّ يسير بخطاً حثيثةٍ نحو نهايته.
ها قد قُطّعت أغصانُ الشّيحِ النّاعمةِ، فكأنّها أكفُّ أطفالٍ صغارٍ، وجُمعت لتشكّلَ حزماً تُربَطُ من سوقِها، وتوزّعُ على الحجراتِ الخشبيّةِ فتتسلّقُها دودةُ القزِّ، وتبدأُ حياكةَ شرنَقَتِهَا الحريريّةِ. وسأظلُّ مدى العمرِ أحتفظُ برائحةِ ورودِ الشّيحِ الزّهريّةِ المُنعشةِ، وقد فاحت عطراً بريّاً، تتهافتُ عليهِ أسرابُ النّحلِ لتملأَ منهُ الخوابي عسلاً شهيّاً لا يُقدّرُ بثمن. أو ربّما يهرولُ إليها أربابُ العطورِ ليكونَ “جيفينتشي” أو هكذا يُهيّأُ إليّ من شذاها النّاعمِ الآسرِ. ولا أتمنّى أبداً، وأنا المسكونةُ بهذهِ الذّكرياتِ البعيدةِ أن يصدمَني أحدٌ مُصحّحاً ما بنيتُهُ من رؤىً وأفكار. ها قد تعبتْ ديدانُ القزِّ الكهلةِ من نسجِ شرانِقِهَا، وآنَ الأوانُ لتنامَ في تابوتِهَا الحريريِّ الذي يصلُ طولُ خيوطِهِ إلى ألفِ مترٍ، وقد تبدّلَ لونُها، وانكمشت بعد أن أنجزت مُهمّتَها على أكملِ وجهٍ. وكان رِهانُها صريحاً وعلى الملأِ ولن تحيدَ عنهُ قيدَ أُنملة؛ فهي على موعدٍ مع حياةٍ أخرى تأتي بعدَ موتٍ، فهذا العالمُ يبدو في نظرِهَا بلا نهايةٍ. أسبوعانِ فقط وإذا بها تثقبُ جدارَ شرنقتِهَا، وتنعتقُ من غيبوبتِهَا مُحلّقةً بجناحينِ مُخملييّنِ غيرَ بعيدٍ، فإذا بها على موعدٍ رسمتهُ لها الأقدارُ. لا حاجةَ للمدعويّينَ، ولا لجوقةِ الأعراس… لقاءٌ مع الشّريكِ، وإذا بالبيوضِ تتدفّقُ من بطنِهَا مُحتفظةً بسرٍّ لن تبوحَ به أبداً حتّى يأتيَ ربيعٌ آخرُ، وتفقسَ البيوضُ الغافيةُ ويُذاعُ سرٌّ، وتُحكى قصّةُ الحريرِ من جديد…