“انتظريني
انتظريني
قليلا أيتها الروح
الصاعدة..
أغصانك
أصابع مودة فارغة
وشياهك
للريح”
**
غالبا ما نتخذ غلاف الديوان، باعتباره واقعة بصرية تشكل مدخلا إلى النص، فكان غلاف المجموعة الشعرية (مقترح للنزهة) للشاعر علي النجدي، يهيمن عليه هارموني لوني يشكله اللون الأخضر الضارب إلى لون الحشائش الذي تندس به خلسة صورة الشاعر في الغلاف الأخير وهي تكتسي مسحة من ذلك اللون لتندغم بقتبس للدكتور لؤي حمزة عباس بالغلاف تماما، كما ينطوي الغلاف ولونه الحشائشي على حديقة مجتزأة من لوحة للرسام الفرنسي بول كليه وشذرات مقتطعة منها موزعة بذكاء اتسم به المصمم الرسام صدام الجميلي، فكان اختيار المصمم للرسام بول كليه موفقا حيث طالما حير تفرد ذلك الرسام بول كليه متلقيه الذين لم يتمكنوا في تصنيف منجزه، فقد نأى بنفسه بالوقوف بعيدا ووحيدا في طرف قصي من فن الرسم، فرغم انه يسير مع الرسامين كلهم ولكنه فريد فيما أتى؛ فلم يكن الرسم بالنسبة لبول كليه إلا حلم يقظة طفولية متواصلة يجب ان تنتهي إلى سبر أغوار اللامرئي من الوجود البصري.
لقد بدا غلاف المجموعة وكأنه أحد التحولات البصرية لقصيدة الشاعر (لي) في مجموعته هذه:
“بيت
لا يشبه البيوت
عشبة
لا تشبه المراعي
أطفال لا يشبهون الذكريات
أصدقاء
لا يشبهون المرايا
…
نافذة
لا تطل
شمس
من ورق
…
حياة
تتساقط
حبات
رمال”
**
لقد هندس علي النجدي نصه بدءا من العنوان فكان عنوان المجموعة (مقترح للنزهة)، عنوانا مولدا للعنوانين الفرعيين فالشعر عنده
نزهتان (=رحلتان): (نزهة النهار) و(نزهة الليل)؛ فيولج رحلة النهار برحلة الليل؛ فينتهي الشعر عنده إلى نزهة تبتدئ من غلاف المجموعة وتنتهي بكل تفاصيل النص، فكانت نصوصه ناتج تقطير (إتلافي) للغة لا يبقي منها إلا جوهر الشعر (=الحلم) حلم يومي ليس إلا لمحة خاطفة تجمع ملتقطات احفورية من اليومي لتجعلها جوا سائدا يلف عوالم القصيدة: فكان جو الاستغراب يلف قصيدة (أطراف جديدة)، وحميمية الذكريات تلف عالم قصيدة (عند شاطئ هادئ)، وكذا جو الانتظار الخانق الذي يهيمن على قصيدة (لعبة).
يتاطر نص علي النجدي بحلمين كئيبين هما أولا قصيدة (وطن) “…يفكر بمدن لا مرئية” مثل مدن بول كليه الشهيرة، “بوجوه نابضة”… وينتهي فيه الأطفال بأن لا يعودوا “بحاجة، إلى مدنه الخفية، لتكون وطنا”، وانتهى بحلم قصيدة (نداء) حيث “البلاد الدخان، تبحر، شاحبة”… فقد “تغير كل شيء”.
بدت لي كتابة علي النجدي بوحا مسموعا او خطابا راجعا موجها من الشاعر نحو ذاته:
“حين تدفعك الكوابيس
إلى الصباح
ادع نفسك لفنجان من القهوة
… ”
(مقترح للنزهة)
“أتعرف
ان شخصا بداخلك
يعرف كل شيء
يمضي بك نحو بياض”
(روحه برتقالة)
“أرجعت سبابتك إلى الحائط
وقلت هنا”
(باب)
“قد يستوقفك احدهم ذات صباح
ترمقه بنظرة عابرة”
(نظرة عابرة)
“اسأل قميصك عن أسماء الفراش،
اسأل كينيك اللتين مازالتا ترعيان روحي
اسأل المروج”
(كل الحكايا، من دونك، عابرة)
**
رغم ان قصيدة علي النجدي “تحتفي… باللحظة العابرة، وتنشغل بالواقعة اليومية محاولة التقاط ما هو حلمي فيها” كما جاء في تشخيص دقيق لصديقي الدكتور لؤي حمزة عباس، إلا ان يومية الواقعة لم تثن الشاعر، عن هندسة (كل شيء) في ديوانه!، فقد كان يقلم أطراف النص إلى ان ينتهي الأخير إلى لقطة منفردة او صوت منفرد تلفه أنفاس جو منفرد وحيد يؤثث أرضية القصيدة، متمثلة غالبا في مقطعها الأخير الذي يبدو الشاعر وكأنه يبتدئ كتابة القصيدة منه، فان جوهر القصيدة يبتدئ من ذلك المقطع الذي يحتم على القارئ إعادة قراءتها، مرة ثانية، انطلاقا منه؛ وبذلك يكون ذلك المقطع جوهرا للقصيدة وتكون كل التفاصيل الأخرى ليست إلا إكسسوارات ملحقة او في أفضل الأحوال ليست إلا فلاش باك او تداعيات مضت (يسردها) الشاعر حينما يكتب (الآن)، حتى انه، في أحيان كثيرة، يلقي بإشارة نصية تدل على آنية الحدث هذه في القصيدة، وغالبا ما يلقي بتلك الإشارة في المقطع الأخير:
“هو الآن…”
(وطن)
“يحدق الآن…”
(أطراف جديدة)
“الطائرة ما زالت”
(عند شط هادئ)
“ترى ما الذي افعله الآن”
(ظل كثيف)
“انك الآن…”
(نسيان)
“على جذعها اتكئ الآن”
(غياب)