تشتمل مجموعة “مشاهد متعددة للحب” على خمسة عشر قصة توزعت على مائة وخمس وأربعين صفحة من القطع المتوسط، وهي قصص متنوعة في محتواها ومن حيث آفاق تخييلها، ولكن ما يلفت النظر فيها هو الاشتغال الفني وإمكاناته التصويرية التي تمكن الكاتبة من التنويع فيه وتوليد جماليات خاصة تتصل بكل قصة على حدة، من جهة، وتربطها بنصوص المجموعة من جهة أخرى. ونظرا إلى الدور الذي يقوم به هذا المكون القصصي في بناء النصوص ومنحها تماسكها وقدرتها على التشويق ارتأت هذه القراءة أن تجعل منه محورا لقراءة هذه المجموعة القصصية.
إن قارئ قصص “مشاهد متعددة للحب” يجد أنها فعلا ترصد مشاهد مختلفة ومتنوعة للحب، حب الحياة والإقبال عليها، وتصوير كل ما يربط الإنسان بالحياة وبالآخرين بحثا عن معنى للوجود في بيئات تفرض العزلة والوحدة والوحشة والغربة على الكائن الإنساني. ومن هنا، فإن التصوير القصصي يركز على تشخيص وتجسيد ما يتعلق بصور حب الحياة والارتباط بها. وهذا الحب لا يمر بالضرورة من خلال حب رجل لامرأة، أو امرأة لرجل فحسب، وإنما يتصل بفهم واسع للحب يتضمن حب الآخر رجلا أو امرأة، وحب الطبيعة، وحب الأشياء، وحب الفن، وعشق تجليات الجمال في شتى مظاهره. والناظر في قصص “مشاهد متعددة للحب” يُلفت نظره هذا الفهم الواسع لمعنى الحب ولمعنى الحياة ذاتها، ولهذا التعدد في المشاهد التصويرية الدقيقة والدالة في الكتابة السردية لدى رزان نعيم المغربي.
في قصة “البحث عن بورتريه” نجد بطل القصة يطارد طيف امرأة التقاها صدفة في مقهى مطار إحدى البلاد، ويتمثل صورتها فيما يرويه لصديقه الصحافي لعله يسعفه في العثور عليها. ويتميز الوصف الذي يقدمه للمرأة بجمالية تصويرية بينة، تأتلف فيه المشاعر الرهيفة للعاطفة الإنسانية بتشخيص حقيقة المرأة وما لفت نظره فيها. فهو يخمن أنها كاتبة، وأنها تمتلك قوة شخصية مقتحمة، وأن آراءها تختلف عن آرائه، لهذا سرعان ما سكنت كيانه، وبلبلت وجدانه، مما دفعه إلى الإحساس بالحسرة لانفلاتها من يده، وجعله يردد عبارته: “ما أنهكتني إلا الأشياء التي أفلتها، في الوقت الذي يتوجب أن أقبض عليها” (ص.10)، لكننا سنقف عند مشهد دال من مشاهد هذا النص القصصي يتمثل في وقوف بطل هذه القصة أمام لوحة رسمها فنان كشفت عن عمق إحساساته وجرح الفقد، تقول الساردة:
” حينما وقع بصره على لوحة المرأة في الشرفة، ابتلع ريقه، حدق بلهفة، كانت اللوحة لسيدة تجلس في شرفة تتأمل البحر وجبالا بعيدة في الأفق، سيدة مرتاحة في جلستها، ترفع ساقيها بشكل متصالب على السور المعدني المشغول بزخارف وفراغات لا تمنع من رؤية الشاطئ، توقف عند غموض تركه الرسام، محاولا إخفاء قدر من ملامح الوجه، همس لنفسه، لكن نفس استرسال الشعر ولونه، حتى تشريح الجسد والانحناءة، كاد يصرخ من الدهشة، وهو يرمي بصره إلى طاولة صغيرة في الركن تبعثرت فوقها أشياء كثيرة، لكن ما يهمه هو الرواية…” (ص.21)
ما يعنينا في هذا المشهد التصويري هو مدى تمكنه من الجمع بين تصوير حالة الشخصية القصصية، وتلون إحساساتها وتعدد حالاتها الوجدانية ما بين الدهشة واللهفة، والرغبة في المعرفة والشغف الذي يتجدد بالمرأة التي فقدها ووجد لوحة تشخصها في مقهى من المقاهي، ثم إن هذا المشهد السردي، كما في باقي القصة، يسير في حركة متموجة ما بين تصوير ما يعتري شخصية البطل من حالات وأحوال، وما بين التركيز على العالم الخارجي من أشياء: مشاهد وروائح. وعبر هذه الحركية يتمكن النص القصصي من نقل حالات التفاعل بين شخصيات القصة والعالم من أفق تخييلي قوامه حب الحياة والإقبال عليها، ومن زاوية مطاردة بطل هذه القصة لامرأة جددت فيه الرغبة في الحياة والارتباط بها.
وتطلعنا قصة “مقهى الكراسة الزرقاء” على مشهد آخر للحب، وأفق طريف للمحبة الإنسانية. تحكي القصة عن شخصية امرأة، عن كاتبة ساقتها الأقدار، أو مقلب من مقالب صديقتها الأثيرة، إلى مقهى اسمه “مقهى الكراسة الزرقاء” لتشرب فنجان قهوة أثناء انتظار التحاق صديقتها. وأثناء الانتظار تلتقي بكاتب اشتركت معه في كتابة نصوصها وأعمالها في “كراسات زرقاء” لم تكن تعرفه حتى نبهها الأصدقاء إليه، وإلى حبهما للكراريس الزرقاء. وكان اللقاء في هذا الفضاء الذي دخلته، بحيث ستلتقي ببول أوستر، الذي لم تكن تعرفه في البداية، ولكن نسجت بينهما الحياة أفقا لحديث عابر، ومعرفة بجزئيات بسيطة من أسباب وجودهما في فضاء المقهى. بهذه السردية الحالمة تتشكل قصةً تُصور جوانب من محبة القراء للكتاب، وتجعل لحظة رؤيتهم أو اللقاء بهم لحظة إنسانية مميزة. تقول الساردة في المشهد الختامي من القصة:
“في هذه اللحظة امتدت يده إلى الحقيبة، أخرج كتابا قدمه لك، على غلافه صورة شخصية له، وأنت تتأكدين من الاسم المطبوع على الغلاف، أخبرك أنه كان في حفل توقيع لنسخ من كتابه مترجما إلى اللغة الهولندية، كدتِ تصرخين من الدهشة أو المصادفة الغريبة، اسم المقهى، وصاحب رواية ليلة التنبؤ التي لم تكملي قراءتها لشدة ما رأيت فيها نفسك، بوول أوستر الآن يدعوك لفنجان قهوة في مدينة لم تفكري يوما أن إقامتكِ ستكون قريبة منها، وفي مقهى اشتق اسمه من محبتكما للكتابة في كراسة زرقاء، وذلك الشبه الغريب في تفاصيل الكتابة وطقوسها، أنت من تعرفين هذا الأمر فقط، بينما كنت بالنسبة إليه كاتبة بانتظار صديقة..” (ص. 29)
هكذا تقوم القصة على لعب سردي متقن يتحول فيه الحلمي إلى الواقعي، والعكس صحيح، بحيث تحلق القصة إلى ذرى الخيال المجنح، لتصور حب المبدع من خلال إبداعه وكتاباته، ولتصير رغبة الجلوس إليه واللقاء به هاجسا ومشهدا جميلا من مشاهد الحب الإنساني. وفي المقطع الذي استشهدنا به نلمح السر الكامن وراء هذه المحبة: اشتراك البطلة الكاتبة مع الكاتب في طقوس الكتابة، وقدرة إبداعه على تصوير جوانب ترى فيها نفسها، فضلا عن عشقهما للكتابة في كراريس زرقاء حتى قبل أن تعرف إبداعه. هكذا نرى أن الحب يمر عبر حب الأشياء، عبر حب الفن والإبداع، وعبر الارتباط بالكتابة وبالكتاب، تماما كما لمسنا في علاقة بطل القصة السابقة “البحث عن بورتريه” وهو رجل أحب الكاتبة التي صادفها في المطار، بحيث نجده قارئا نهما للرواية، وعاشقا لفن الرسم.. هكذا نرى أن محبة الأدب والفنون تعد مدخلا لمحبة الناس والحياة والإقبال عليهما.
ومن هنا نرى أن التصوير القصصي لدى رزان نعيم المغربي يركز على تصوير ارتباط الشخصيات بما يؤثث الحياة من حولها، وبما يجعلها تحب الآخرين وتقبل عليهم حتى في لحظات الخوف أو الهلع كما نلمس لدى بطل قصة “شيش باني-هلوين” الذي دفعته تحذيرات جارته العجوز إلى الحذر والاحتياط من المجهول ومن المراهقين الذين يتنكرون وراء الأقنعة في عيد الهالوين مفترضة أن اللصوص والمجرمين يتخذون من هذا العيد ظرفا لممارسة عدوانهم، غير أن بطل هذه القصة يدفعه حبه للحياة إلى شراء الحلويات وانتظار الأطفال والمراهقين الذين سيطرقون بابه دون جدوى مسترجعا ذكريات طفولته في بلده وطقوس عاشوراء وما يرتبط بها من أجواء تدل على محبة الناس، ومحبة الأطفال، وتحقيق لحظات فرح إنساني مشترك. ويركز التصوير القصصي على تشخيص هذا الترابط الإنساني وآفاقه الشاسعة في حركة قصصية تستند إلى الاسترجاع والتداعي والتداخل ما بين الزمن الراهن: ليلة الهالوين التي يعيشها البطل بهواجسها وهو في مهجره وغربته، وزمن أيام عاشوراء وذكرياتها التي ترتبط بماضيه ودفء وجوده بين أسرته. وعبر مد الزمن الحاضر وجزر الزمن الماضي وحركيتهما في القصة، يتمكن التصوير الفني من الوقوف عند دقائق المشاعر والهواجس التي تمر بالبطل، كما تجلي أوجه تفاعله مع الحياة والآخرين من حوله، وانتصار رغبة مشاركة الآخرين طقوسهم وأفراحهم.
وفي قصة “المبنى القديم” نلمس بشكل جلي دور الأشياء في ربط الناس بعضهم ببعض، وجعلهم يُقبلون على الحياة ويحبونها. وفي هذه القصة تتداخل المشاهد، بالأطعمة والنكهات، وبالروائح والأصوات لتتشكل عوالم تخييلية فاتنة تجسد مدى الارتباط بالحياة ومحبتها. تقوم القصة على خلفية حكاية حب بين امرأة (صحافية وكاتبة) وخطيب لم يتيسر لعلاقتهما الاستمرار والنجاح، غير أن صديق الخطيب الذي دعا المرأة إلى المقهى والمطعم الفريد في طراز بنائه القديم، وشكله الداخلي العجيب يحاول ترميم العلاقة وإصلاح ما يمكن إصلاحه بين الحبيبين عبر حفز ذاكرة المرأة وإعادة حيوية لذكريات ثاوية غور ذاتها. وقد كان إهداء الصندوق الجميل الذي أثار انتباه المرأة بزخارفه وعبارته المكتوبة عليه: “كل ما تحتاجه هو الحب” إلى المرأة، ودعوتها إلى شرب القهوة والفطائر المحلاة بالقرفة من بين العناصر التي استثمرها الرجل في محاولته رأب صدع علاقة البطلة بخطيبها. وتنهي القصة نهاية مفتوحة توحي باحتمالية العودة. وقد نجح التصوير الفني، عبر تركيزه على سبر المشاعر والهواجس والخواطر والأفكار التي انتابت البطلة من جعل حب الحياة، والسعي إلى المحبة والوفاق بينها وبين الآخرين عنصرا فعالا في تشكيل متخيل القصة وتأثيث عوالمها الإنسانية الشفيفة.
أما قصة “غدا يوم جديد” فتذهب إلى تصوير معاناة شخصيتها المحورية خلال فترة انتشار وباء كورونا (كوفيد 19) وسعيه إلى التغلب على ظروفه الصعبة المأزومة، ووحدته ووحشته. لقد قام بطل القصة بصنع مقطع فيديو موسيقي وضعه على بعض وسائل التواصل الحديثة فكان حافزه على الارتباط بالحياة وحبها. وقد كان لتفاعل الآخرين مع الفيديو وتواصلهم مع الرجل دورا حاسما في شعوره بجدوى الفعل وجدوى الارتباط بالآخرين لأنهما دليل وجود وبقاء.
وهكذا كانت هذه القصة قصة محبة الإنسان ومحبة الآخرين بغض النظر عن أوضاعهم، وألوانهم، وجنسياتهم، وديانتهم. ويتخذ التصوير الفني في هذه القصة أفقا منفتحا عبر تعدد أصوات الرواة في القصة، أصوات الشخصيات التي تفاعلت مع فيديو الموسيقى وحكيهم لقصصهم الشخصية، وتعبيرهم عن تحولات حياتهم، وكيفية استعادة إيمانهم بجدواها والارتباط بها، مع التنويه بدور الرجل ومقطعه الموسيقي في إحداث ذلك التغيير. وعبر تعدد المحكيات وتعدد المشاهد والرؤى في هذه القصة يتخذ التصوير الفني أفقا منفتحا وبعدا تجريبيا منح النص حيوية وحركية لا يمكن التغاضي عنها.
وعلى هذه الشاكلة تصنع قصص “مشاهد متعددة للحب” عوالمها السردية وبنيتها التصويرية الفنية من أفق تفعيل قيمة الحب والمحبة الإنسانيين في بعدهما الشامل ليكونا منطلقا نحو بناء نصوص تخييلية شفيفة وعميقة تعكس منظورات غنية ومتعددة للحياة وتمنحها معنى يليق بها، كما يليق بالكتابة ذاتها كقيمة من قيم التواصل والمحبة. وقد نجحت الكاتبة في جعل نصوصها قطعا أدبية فنية حقة قوامها براعة التصوير وتمكنها من اقتناص مشاهد دالة لمشاهد حبها المتعددة.
*رزان نعيم المغربي، مشاهد متعددة للحب، دار السراج للنشر والتوزيع، طرابلس/ليبيا، 2023.