عبد الرحيم التدلاوي
يعد الأدب الوجيز لونا تعبيريا جديدا فرضه العصر وما يعرفه من تحول، ويتميز بالتكثيف والإيجاز، اعتمادا على القولة المشهورة، خير الكلام ما قل ودل، واعتمادا على قولة النفري المعروفة، تقول الباحثة إلهام مسيوغة في هذا الصدد:الأدب الوجيز إذن له أبعاده التاريخيّة في الشّعر والأدب والتّراث، لكنّ الحاجة إلى إظهاره الآن هو من متطلّبات الحياة المعاصرة، فالتطوّر حالةٌ إنسانيّةٌ مُلحّة لأنّ المجتمع الإنسانيّ قيد التّطوّر المستمرّ، لذلك ظهر الأدب الوجيز حلّا لإعراض المتلقّي وعزوفه عن الأدب.
هو حركة تجرّأت على تشخيص الدّاء وتقديم الدّواء. فضحت داء الإسهاب والتكرار والاجترار شكلا ومضمونا. وتكمن قيمتها في أنّها تطرح مضامين ومفاهيم نقديّة جديدة، حيث تدعو إلى تجاوز الأشكال الوجيزة القديمة بمرتكزات نظريّة مغايرة تستجيب لحاجة العصر. فتحوّل الأدب الوجيز إلى قوّة إبداعيّة استثنائيّة اكتسبها من قدرته على التعبير في إيجاز عن بحر من القضايا الرّاهنة في مجتمع لا يقرأ ولا يملك متّسعا من الوقت يقضيه في قراءة أثر أدبيّ مطوّل.
_ 2 وتضيف موضحة: والوجيز هنا ليس مسايرة لحركة العصر بقدر ما هو نظرة جديدة للأدب وقضاياه، تبرّرها إرادة التجديد، إذ لا قيمة للوجود إلّا بالاستمرار في الإبداع.والنثرات من الأدب الوجيز.
وفيا للأدب الوجيز، يصدر الشاعر والقاص والناقد سعيد السوقايلي مجموعته الموسومة ب النثريات”، والصادرة عن دار الشعر سنة 2023، يقدم فيها نصوصا كثيرة تتميز بخصوبتها رغم كونها لا تشغل سوى حيز صغير في كل صفحة صحبة أخواتها. إنها نصوص مقطرة ومكثفة، وقد كان اختيار الاختزال سبيلا للتعبير عما يخالج المبدع من أفكار وتطلعات، وأحلام،. لقد اتخذ سعيد سمت الفلاسفة فجاءت نصوصه دقيقة نتيجة تأمل طويل في شؤون الحياة، وارتبطت بالحكمة، كما ارتبطت بالتصوف فجاءت إشراقية، لكن الشاعر لم يشأ أن يغادر العمل بل ظل ملاصقا له يصوغ أساليبه معتمدا على الصور والتشابيه، وبشكل عام، اعتمد المجاز.
ولم يكن انتقاله من القصة القصيرة جدا إلى النثريات من أجل الانتقال، بقدر ما هو حاجة كتابية وجمالية تجمع بين أساليب متنوعة مستمدة من خطابات عدة كالشعر والفلسفة والتصوف وغيرها.
ثم إن الأنواع أشكال متحركة، قابلة للاختراق والتداخل والتحول، وتتسم بنشاط تطوري ناتج من حركية المجتمع نفسه.
يسعى المبدع إلى تشكيل نثرات تمتح من السرد محكيه، ومن الشعر إيحاءاته المجازية، ومن الفلسفة حكمتها وأسئلتها الأنطولوجية، ومن التصوف إشراقه، وهو ما أنتج لنا نصا يقف في الحدود المتجاورة لكل هذه الخطابات. او لنقل إنها نصوص تستدمج في جوفهاها كل ما سبق لتقدم لنا شكلا تعبيريا جامعا معتمدا التكثيف والاختزال والدقة في التصويب.
مما يعني أن هذا التعدد ينتج نصا موحدا يقف على الحدود بين الأجناس المذكورة آنفا.
كل ذلك في إطار اللعب الإبداعي باعتباره ممارسة طفولية هدفها اللذة والاستمتاع، لكن المبدع لا يلعب فقط، وإنما ككل ممارسة لعبية يريد هدفا للعبه. قد يكون سخرية من الآخر او من نظام الكلام أو من نظام التأليف والكتابة والتلقي. فهي أنظمة عقلانية متضخمة تستكين إلى الاستقرار واليقين والطمأنينة والكسل. واللعب وحده يستطيع أن يزلزل هذه الأنظمة، ويعيد تشكيلها وترتيبها، ويقول وجهها الآخر العبثي واللامعقول، وينشر القلق والتوتر ويسمح للأنا أن تكتب وفق النظام الذي ترته مناسبا. ص 216
* 1
لم يكن الواقع بعيدا عن نثراته بل كان في قلبها، وقد وظف أساليب كثيرة تستبطن السخرية منه وترميه بالنقد نظرا لما يعتمل فيه من تناقضات صارخة، وما يكتنفه من أعطاب، كما في نص 4 الذي يقول:
السلحفاة، الحلزون، المحار، الكنغر.. كائنات متبصرة، لأنها فكرت في أزمة السكن قبل الإنسان ! ص 5.
وإذا كان النصيص السابق ينتقد أزمة السكن المستفحلة التي خلقها الإنسان لنفسه هو الكائن العاقل، بخلاف مخلوقات الله التي تم الإشارة إليها، فإننا نجد هذا الإنسان نفسه يقيد حياته بصنع أغلال لها، يقول:
نحن عبيد أحلامنا، ونحن بالمقابل نصنع سلطة تعتقلنا بسبب حلم حر وطليق. ص 5
والمبدع، يرصد، من خلال هذا النصيص، التناقض الموجود بين الأحلام كفعل يعبر عن الحرية، نرومها، ونسعى إليها سعيا، وبين ما نصنعه لأنفسنا من سلط تعتقل هذه الأحلام الحرة.. نصنع الحرية والقيد. نضع جنب الحرية القفص. يا للغرابة!
الإنسان كائن غامض ومعقد، يطلب شيئا ويأتي بنقيضه. والغريب أننا نعيد بناء التصور نفسه، والحياة ذاتها بتناقضاتها ولا نقوم سوى بتغيير طفيف للأشخاص أنفسهم، يقول النصيص بحكمة وتبصر:
أفظع ما في البشرية أنها تكرر لنا نفس الأشخاص مع تغيير طفيف في الملامح. ص 61.
وكأن التاريخ حلقة دائرية محكوم عليه بالتكرار مادام الإنسان هو الذي يقف وراء مأساته التي صارت مهزلة بفعل هذا التكرار. فهل نيرون يختلف عن هتلر؟
المطلوب، إذن، كسر هذه الحلقة المفرغة، كيف ذلك، يجيبنا النصيص التالي ب:
اجلس مع الحاضر، تحاور مع الأمس، وتفاوض مع الغد. ص 61.
على الإنسان أن يحاور الأزمنة الثلاثة كاملة من دون أن يعتقل في زمن واحد حتى لا يقع في المحظور نفسه وهو تكرار حياته الراكدة.
ويستمر المبدع في رسم معالم الخروج من دائرة التكرار عبر نصيصات تدعو بجمل إنشائية إلى الانفتاح على الحياة والاستمتاع بجمالها، يقول:
تنفس مثل وردة، فكر مثل شجرة. ص 34.
فالجامع بين الوردة والشجرة هو عنصر الطبيعة من جهة والجمال والفائدة والعطاء من جهة ثانية.
وفي إطار من التفكير الفلسفي يقدم لنا حزمة من النصوص التي تشق طريقها باتجاه القعل تستثيره ليفتح نوافذ رؤيته لما حوله، ويسعد النظر في ما ألفه من رؤية، كمثل قوله:
الفراغ ليس عدما، إنه امتلاء أيضا. 34.
أو قوله:
الظل صلاة الشجرة. ص 35.
نشعر من خلال هذا النصيص بعبق التصوف والشعور بحلاوة الإيمان عبر كلمة الصلاة. هكذا نجد المبدع يجمع بين الشعري والفلسفي والصوفي في تركيبة واحدة بلغة تمتاز بدقتها وتكثيفها.
لكن السخرية، كما أسلفنا، لا تغيب عن نصيصاته/نثراته، كما في قوله:
كل سيارات الشارع ملكا له، لكنه للأسف لا يملك مفاتيحها. ص 36.
فالسخرية ضمنية تجليها المقابلة بين الامتلاك واللامتلاك. فله السيارات جميعها لكنه يفقد مفاتيحها لنصل إلى النتيجة التالية وهي عدم امتلاكه لأي شيء، إنه محروم منها جميعا، فقدان المفتاح يفيد فقدان الشيء المفتوح؛ إذ لا جدوى من امتلاك سيارة من دون مفتاح. ولعل الشخص المعني في هذا النصيص هو حارس السيارات، أو من يشبهه ويقوم مقامه من فقرائنا ومعدمينا. مثل موظف البنك الذي يمتلك المال يوزعه على الزبائن وهو لا يمتلك منه شيئا.
كما أن السخرية تتجلى بطرافة في هذه النثرة، تقول:
الرقم 8 ربط على خاصرته من فرط السمنة. ص 58.
صورة ساخرة رصدتها عين لاقطة وأودعتها في قالب فكاهي ممتع.
يظل السرد حاضرا في النثرات، يمنحها الدينامية والفعالية وقوة التأثير، كما في هذا النصيص الذي يرصد حوارا بين الابن وأمه، والأم هي الحاضرة الغائبة؛ حاضرة استماعا وغائبة تعقيبا وردا:
_ أتعرفين يا ماما بماذا أجبت معلمي حين سألنا لماذا تختفي النجوم نهارا؟ لقد قلت له بأنها تذهب لتنام. ص 37.
وليست الأم هي الغائبة/الحاضرة، بل يقاسمها الغياب المعلم أيضا، لأنه محرك النص والباعث على الجواب. ونرى براءة الأطفال في الجواب والشعور بالمتعة وهو ينقل جوابه إلى أمه.
والنص الذي يساكن هذا النصيص يحمل جوابا فلسفيا وكأنه الطفل وقد صار راشدا، يمتلك قوة التفكير ودقة الملاحظة، يقول:
الغياب هو حضور آخر. اسألوا الشمس. ص 37.
وفي نصيص آخر:
حين يجن الليل، كل نجمة هي شمس نفسها. ص 46.
وفي براءة الأطفال وما يشغل بالهم، يأتي هذا النصيص، باستحضار الأب بدل الأم كما في السابق، يقول:
بابا، حين نكون في الجنة، هل سأذهب إلى المدرسة أيضا في الصباح الباكر !؟ ص 46.
ومن النصيصات العميقة في حكمتها وبعد مراميها هذا النصيص الذي يقول:
حين تركب القطار الخطأ، حتما لن تتيه، فقط ستصل إلى وجهة صحيحة كنت دائما تتجاهلها. ص 50.
ثق في القطار، فبعض الأخطاء تمتلك ميزة الاكتشاف.
وفي نصيص آخر يقول بحكمة:
لن تحتاج إلى أن تضع ساعتين في معصمك، إلا إذا أردت أن تميز بين الوقت وزمنك. ص 56.
واضح أن هذه النثرات لم تكتف بأن تكون وجيزة، قليلة الكلام كثيرة الصمت بل كانت مشحونة بطاقة متنوعة في الكشف والمعرفة والتأثير، فضلا عن قدرتها في إحداث الصدمة وتوليد الدهشة.
تدخل “النثرات” ضمن الأدب الوجيز؛ وهو مصطلح أدبي بدأ يترسخ حضوريًّا في العصر الحديث، ويشير إلى عمل يتميز بالإيجاز الشديد، وقد يشمل الفنون السردية والشعرية.
كما أن الوجيز هو التعبير عن عديد المعاني بالقول القليل.. والوجيز هو البليغ الذي يبلغ مقصده دون أن يطيل حتّى لا يملّ، فخير الكلام ما قلّ ودلّ يغنيك قليله عن كثيره.
لم تنبثق الكتابة الوجيزة من عدم بل كانت نتيجة تفاعل إيجابيّ مع كلّ الآداب العالميّة التي لم تخل من هذا النّوع من الكتابة الوجيزة الموغلة في القدم على مرّ التاريخ.
_ 2
ولأنه من الصعب الإحاطة بالعمل كله ومن كل الجوانب؛ فقد اقتصرنا على ضرب أمثلة استشهادية تدل على تمكن المبدع من أدواته التعبيرية، وبراعته في تشكل عوالمه التخييلية، وقدرته على الخوض بكفاءة في هذا اللون التعبيري محملا إياه رؤاه وتصوراته، وموظفا فيه الكثير من أدوات الشعر والتأمل والتصوف، فجاء العمل ثريا بمضامينه وبأشكاله التعبيرية وأساليبه الفنية. وبه انتقل النثر من صورته التقريرية إلى نثر يمتلك طاقات متدفقة من الصور البيانية والتعابير المشحونة والقدرة على خلق الدهشة والمتعة في آن.
**
ملحوظة، لم أتطرق للنصوص الأكثر طولا، والتي جاءت في آخر الكتاب، بل اهتممت بالنثرات الموجزة والمكثفة، على أن تكون لي إن شاء الله، وقفة معها.
1_ د عبد القادر الطاهري، القصة القصيرة المغربية، المكون التراثي وبناء الدلالة، مقاربات الطبعة الأولى سنة 2016.
2_ إلهام مسيوغة – الأدب الوجيز حركة تجاوزيّة جديدة من خلال نماذج مختارة
مجلة أنطولوجيا الرقمية.