“أَزرار” 1327
المصدر “النهار”
الجمعة 30 آب 2024
أَصعبُ ما يُصيب الكاتبَ أَن يَبْلغَ الإِغماضةَ الأَخيرة قلِقًا على مصير كتاباته بعده، مطبوعِها والمخطوط.
مساءَ الخميس 24 أَيلول 1987 كنتُ أَزور توفيق يوسف عواد في بحرصاف (بلدة ولادته الثلثاء 28 تشرين الثاني 1911)، حين قام إِلى غرفة مكتبه وعاد حاملًا مجلَّدًا ضخمًا كتَب لي إِهداءً على صفحته الأُولى وأَسداه إِليَّ فإِذا هو “توفيق يوسف عواد – المؤَلَّفات الكاملة” (888 صفحة قطْعًا كبيرًا ضَمَّ جميعَ كتُبِهِ الاثنَي عشر – منشورات “مكتبة لبنان”).. وحين شكرْتُهُ بادرَني: “راجعتُه بدقَّة متأَنية 3 مرات حتى خرج نظيفًا شَكلًا ومضمونًا. الآن يمكنني أَن أَموت مطْمئنًّا”.. طبعًا لم أُجِبْهُ بالعبارة المسطَّحة السخيفة أَن يُطيل الله عمره بل حفظْتُ عبارتَه في صمتي، وغبطْتُ رضاهُ أَنْ تَمَكَّنَ من رؤْية مؤَلَّفاته جميعها صادرةً قبل أَن يغيب عنها. وأَظنُّ القذيفة التي قتَلَتْه في السفارة الإِسبانية ذاك الأَحد 16 نيسان 1989، لم تقتُل فيه اطْمئْنانه إِلى أَنه أَشرفَ على إِصدار مؤَلفاته الكاملة في مجلَّدٍ واحد، وخَتَمَها برضاه.
تذكَّرتُ تلك الجلسة في بحرصاف قبل 35 سنة، وأَنا أَكتُب الآن وأَمامي كتابان بتوقيع أَخي في أُسرة القلم الدكتور أَمين أَلْبرت الريحاني.. الأَول إِنكليزي: ترجمةُ كتابه القديم “فيلسوف الفريكة صاحب المدينة العُظمى” (1986) وضعها في أَميركا الدكتور جورج نقولا الحاج وأَصدرها الشهر الماضي في 722 صفحة قطعًا كبيرًا (منشورات مؤَسسة “أَمازون” الأَميركية)، والآخَر هو جديدُه الحالي: “صُنُوف الأَدب في ملوك العرب” (منشورات “دار النهار” – 544 صفحة قطعًا كبيرًا). وأَمين، عدا إِشرافه على طباعة مؤَلَّفات عمِّه الأَمين أَو إِعادة طبعها مع تحقيقٍ وتقديم، أَشرَف مُحقِّقًا ومُدقِّقًا ومُوثِّقًا ومُقَدِّمًا “المجموعة الكاملة لمؤَلَّفات أَمين الريحاني العربية” (6540 صفحة في 6 أَجزاء قطعًا كبيرًا – منشورات “مكتبة لبنان” – بيروت 2016). كلُّ هذا عدا وضْعِهِ قبْلَذاك مؤَلَّفات نقدية أَو بحثية أَو مسرحية أَو إِذاعية عن عمه الأَمين الكبير، كأَنَّ هذا أَغلى ما ورِثَه من والده (شقيق الأَمين) الناشر أَلبِرت الريحاني الذي صرَفَ عمره منذ غياب شقيقه يجمع تراثه ومخطوطاته، ويُصدرها تباعًا أَو يُعيد طباعةَ ما كان صدَر على حياة شقيقه، حتى إِذا استراح إِلى شيخوخته الرضيَّة (انتهت بغيابه مساءَ الجمعة 28 تموز 1995) عهَدَ بالرسالة إِلى بكْره أَمين فنهضَ بها فورًا تأْليفًا ومتابعةً وموقعًا إِلكترونيًّا ومؤَسَّسةً في الفريكة الأُمّ (تُديرها في واشنطن شقيقتُه الشاعرة مي الريحاني)، إِلى اهتمامه المباشر بالمتحف الذي قال لي عنه والدُه أَلْبِرت حينَ جلستُ إِليه ذات أُمسية في واشنطن عند ابنتِه مي: “في اليوم الثالث لدفْن أَمين، دخلتُ غرفته الخاصة في بيتنا (الفريكة) وأَقسمْتُ: “على اسمكَ يا أَمين سأَجعلُ هذا البيت متحفًا” (نشرتُ حواري معه في العدد 32 من مجلة “الناقد” – لندن – شباط 1991).
ووفى أَلْبِرت بقَسَمِه لشقيقه، وهيَّأَ البيت متحفًا تَمَّ تدشينُه سنة 1953، وهو اليوم في عهدة ابنه أَمين الذي “ترَسَّل” لإِرث عمِّه الأَمين الكبير، مُتَصومعًا فيه، مُتَرهْبنًا له، متنسِّكًا لجدوى إِصدار كلِّ ما لم يصدُر بعدُ من مؤَلفات الريحاني العربية والإِنكليزية.
اليوم، أَمين أَلْبِرت الريحاني في طليعة أُدباء لبنان بمؤَلفاته الشخصية (عربيِّها والإِنكليزيّ، شِعرها والنثْر) وبكُتُبِه عن عمِّه الأَمين إِذ نَذَر جُلَّ مسيرته الأَدبية لتراث عمِّه فاستحقَّ بوفائه بَرَكَة الأَدب ولبنان الأَدب.
من المرويَّات أَنْ ساعةَ انزاح عن صدْر الريحاني النَفَسُ الأَخير في غرفته (الواحدة ظُهْر الجمعة 13 أَيلول 1940) توقَّفَتْ ساعةُ الجدارِ الكبيرةُ في صدر الدار. لكنَّ زمن الريحاني لم يتوقَّف، بفضْل شقيقه أَلْبِرت وبعدَه ابنه أَمين أَلْبِرت الذي ما انفكَّ يُنَصِّع أَدبَ عمِّه عامًا بعد عام. لذا لم أَجد لهذا المقال عنوانًا يَفيه فضْلَه أَفضلَ من مخاطبة الأَميْنَيْن: “أَمين الريحاني: هنيئًا لكَ بأَمين الريحاني”.
يعتبر بعض الباحثين في تاريخ قصيدة النثر في العراق أن امين الريحاني وزيارته للعراق هي الفاتحة الحقيقية لمفهوم كتابة الشعر دون قيود الوزن وألعروض بتفصيلاته المختلفة.. ينظر مثلا كتاب )محاكمة الخنثى.. قصيدة النثر في الخطاب النقدي العراقي( ..
تحياتي لمرورك وتعقيبك،