هل يبدو لك طبيعيا ذلك الشعور الذي ينتاب البعض فيجعلهم يسرقون حياة شخص ما أو يحلون محله في الحياة دون علمه ؟ اذا كان كذلك ، فما مدى امكانية حدوث ذلك ؟ أي أن تتاح لك فرصة أن تحتل حياة ذلك الشخص الذي تحلم ان تكون مكانه بما يملكه ؟ تخيل الآن أنك تريد ان تحل مكان احد اكبر أغنياء المدينة او اشهر الشخصيات فيها ، وان تتمتع بكل امكانيات وتفاصيل حياته ؟ منزله ، ثيابه ، عطوره ، مجوهراته ، رفاهيته … فكيف يمكن ان يحدث ذلك يا ترى ؟
هذه هي خلاصة الفيلم التشيلي ( في مكانها) المرشح للأوسكار هذا العام 2024 .
في التفاصيل ، تقتل كاتبة تشيلية شهيرة في سنوات الخمسينيات الرجل الذي تحبه امام انظار الجميع وفي قاعة طعام احد اشهر الفنادق ، فيقبض عليها وفي الطريق إلى سيارة الشرطة تلتقي اربعة عيون في لحظة خاطفة ، عيني الكاتبة القاتلة ، والسيدة التي هرعت لمكان الجريمة مع قاضي التحقيق باعتبارها مساعدته الملازمة ، لحظة التقاء لن تمر مرور الكرام فقد أشعلت شرارة ما لم تكن اياً من المرأتين تدري إلى اين سيصل حريقها ؟ والحقيقة أن الحريق اشتعل في قلب وحياة مساعدة القاضي !
تقتاد المرأة للسجن ، وتتهم بالجنون ، ويحكم عليها ب 540 يوما فقط ، خلال ذلك تتمكن المساعدة من الذهاب لمنزلها الفاره والأنيق بتكليف من القاضي لجلب ملابس ومقتنيات شخصية للكاتبة الموصى بالاهتمام بها من قبل جهات عليا ! لكن تلك الزيارة ستتكرر كثيرا دون علم احد ، إلى الدرجة التي ستتعامل فيها المساعدة مع منزل الكاتبة وكأنه منزلها ، والى الدر التي ستستبدل فيها حياتها بحياة تلك الكاتبة ، ستعيش في منزلها بعد العودة من العمل ، ستطهو طعامها هناك وتتناول وجباتها وتستحم بل وتستخدم ملابسها الأنيقة وعطورها وحليها .. ستنفصل تدريجيا عن حياة البؤس التي تعيشها مع زوجها المصور الفوتوغرافي قليل الموهبة وابنيها الارعنين !
سيلاحظ زوجها تلك التغيرات وسيتبعها ويعرف الحقيقة وسيواجهها : “لكنك تأخذين حياة امرأة اخرى ، ليست حياتك ؟لماذا تفعلين ذلك ؟) بسبب الهدوء الذي افتقده ، انتم تعيشون في ضجيج لا تحتمله هشاشتي ، لذلك لا تناسبني حياتكم ، هذه هي الحياة التي أريدها بالفعل ! هكذا ستجيب زوجها
لكنها حياة لن تستمر طويلا لانها حياة مسروقة ، ليست طبيعية !!
وقد سألتني صديقة تعليقا على الفيلم : أي حياة تودين سرقتها او تقمصها بديلا لحياتك ؟ لم يكن السؤال مفاجئا بالنسبة لي فقد خطر ببالي وأنا اشاهد الفيلم ( في مكانها) ، كما ألحّ علي وأنا اكتب المقال ، ولدي إجابتين ، وليست واحدة !
الحق انني لم اعود نفسي النظر إلى ما لدى الآخرين ، وهذا ليس من باب ادعاء المثالية، لكنها التربية التي يتلقاها أحدنا وينشأ عليها ، مصداقا لقول ابي العلاء المعري ( وينشأ ناشىء الفتيات منا على ما كان عوده أبوه) . لقد كانت الأمهات في صغرنا إذا اصطحبت صغيرها او صغيرتها معها في زيارة لأحد ظلت توصيه طيلة الطريق بأن لا يمعن النظر ولا يبحلق فيما سيشاهد في ذلك البيت ، واذا فعل عاقبته ،! وبذلك وئدت رذيلة الطمع في الصغار باكرا على يد الأمهات !
مع ذلك فلو اتيحت لي الفرصة لعدت بالزمن سنوات للوراء، لغيرت خيارات مصيرية شكلت جوهر حياتي كلها ، اتمنى لو أمكنني ذلك فعلا بدلا من أن اكون مكان شخص آخر في الحياة ، إلا انه من المستحيلات ان يغير الانسان قدره ، لذلك كان الخيال بديلا مشروعا ، وصار التخييل في الادب والسينما حلا رائعا لمستحيلات الحياة .
كثيرون وكثيرات ممن سألتهم صديقتي ، لم يقدموا اجابة لأنهم لم يتمنوا ان يكونوا في مكان احد آخر ،لكنهم يودون لو استطاعوا تغيير بعض المسارات المصيرية في حياتهم ، فربما اصبحت حياتهم ،كما يظنون ،اقل وطأة وأفضل مما هي عليه !
قليلون جدا من تمنوا أخذ حياة شخص آخر ، قالوا انهم يودون لو يكونوا مكانه ليعيشوا الحياة التي لطالما تمنوها ولم يقدروا على تحقيقها ! لكن هؤلاء لو قام أحدهم بتوسيع زاوية الرؤية في الاتجاه الاخر ، ونظر عميقا إلى حياة ذلك الشخص ، فربما وجد ان حياته التي يود استبدالها افضل بكثير !
نحن نتمنى ما لدى الآخرين لاننا لا نرى إلا ظاهر الصورة البراق، اما زواياها المعتمة فهي مختبئة في قلوب اصحابها ، لذلك فان القناعة بما بين أيدينا تسهل الحياة وتمنحنا يقينا بأن ما بين أيدينا أفضل ربما مما لدى الآخرين لكننا لا نعلم الغيب !