النص الكامل لأحدث قراءاتي النقدية بعنوان:
تجليات اللغة الشعرية في النصوص السردية النسوية
قراءة في المجموعة القصصية (بكاء الشجر) للكاتبة أ/ إيمان أحمد يوسف يوسف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ مجدي شلبي – عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر
ــ مقدمة ـــــــــــــــــ
ـ لقد أضحى مألوفا أن يتجه الشاعر ــ أو الشاعرة ــ إلى الكتابة السردية (القصصية أو الروائية) عندما يجد نفسه بحاجة إلى مساحة سردية أوسع للتعبير عن تفاصيل أكثر تعقيدا وتنوعا من التجارب الإنسانية، أو نتيجة تأثره بقراءات قصصية أو روائية، شغف بها؛ فترسخت في ذهنه رغبة في ولوج تلك العوالم السردية التي تتيح له بناء مشاهد كاملة وأحداث مفصلة. ولا شك أن الشاعر عندما يدخل إلى عالم السرد، فإنه ــ غالبا ــ ما يحمل معه أدواته الشعرية؛ فيظهر ذلك من خلال اللغة المترفة، والاهتمام بالصور الجمالية، والإيقاع الداخلي للنص، وهكذا تتأثر القصة أو الرواية بشعرية الأسلوب والتأملات الفلسفية، مما يضفي بعدا تأمليا أعمق على الأحداث والشخصيات. وهو ما يبدو جليا في هذه المجموعة القصصية “بكاء الشجر” للكاتبة الشاعرة أ/ إيمان أحمد يوسف، بداية من العنوان الرئيسي للمجموعة.
قراءة في شعرية ومضمون العنوان ــــــــ
لقد جاء عنوان “بكاء الشجر” معبرا تعبيرا رمزيا عن الحزن الكامن في الطبيعة، كما أنه يعكس حالة من التفاعل الوجداني بينها وبين الإنسان، بين قسوة البشر ورقة الشجر، حيث أن كل شجرة تحمل ملامح وجه مختلف، تعبيرا عن تنوع المشاعر الإنسانية، كما يُعتبر الشجر شاهدا على مرور الزمن، ومسجلا لوقائع الذكريات والأحداث. وهنا ظهرت براعة الكاتبة في التعبير عن المشاعر الإنسانية من خلال رمزية الشجرة المتفاعلة مع محيطها من البشر، والمظللة والحامية لهم، ثم هي في النهاية المضحى بها، والمتعرضة لأقسى أنواع العنف والقهر: “والأغصانُ تبكى قسوةَ البشرِ ــ الذين قطعوا الشجرة ــ دونَ مبالاة”؛ فـ”ماتَت على قارعة الطريق حيث لا صاحب ولا صديق” (ص 42)، ومن ثم تشير أيضا إلى قسوة الإنسان، التي تسببت في “تشريد وتشتت عشرات من عائلات العصافير” (ص 43)، نتيجة تلك الحرب بين البشر والشجر، وهي الحرب التي تُعد أنموذجا مصغرا لنتائج الحروب ــ عموما ــ بنتائجها الكارثية المؤسفة. والكاتبة هنا لم تشأ أن تنهي الصراع بين البشر والشجر بانتصار الشر على الخير؛ بل ذكرت: “ولكن ــ الشجرة ــ انتقمت لنفسِها فوقع جزء من الغصنِ الكبيرِ أمامَ بابِ المسجدِ رغمَ أنفِ قاطعيه وحالَ بينهم وبين باب المسجد” (ص 42)، وفي هذا إشارة لشدة العقاب الذي تعرضوا له، لقاء عظم الجرم الذي أقدموا عليه، وتنتهي القصة بـ”بدأ الغبار يغمر البيوت، وتسللت حرارة الشمس إليها…” (ص 43)، وكان هذا عقابا آخر لجحود الإنسان على نعمة الستر والاحتماء بالشجر.
ــــ إطلالة على شعرية عناوين ونصوص أخرى ـــــ
من شعرية عنوان “بكاء الشجر”، إلى عناوين وقصص أخرى حفلت بتلك الشعرية؛ منها على سبيل المثال: “شلالات الحقائق”، و”أجنحة البحر”. والمدهش أن الكاتبة الشاعرة استطاعت أن تورد بذكاء شديد أربع قصائد شعرية في سياق قصة بعنوان “أمسية”، ووضعتها في إطار أحداث القصة حيث ألقتها البطلة في أمسية؛ منها قصيدة بعنوان “دعوة حب”: “بدعوة حب/ نقول يارب/ تقرب كل قلب لقلب/ ونزرع تاني شجرة حب/ وننسى البعد/ وننسى الكرب/ يا صحبة خير/ دوام فرحك/ ف إيد مع إيد/ يزيل جرحك/ بعمر جديد/ بدعوة حب/ يعيد إحساسنا/ ببسمة صدق يوم العيد…” (ص 81). وهنا ــ وفي القصائد الثلاث الأخرى ــ نلاحظ وجود إيقاع موسيقي للنص، من خلال التكرار الصوتي والتركيب الإيقاعي للجمل، مما يُضفي على النص سلاسة وانسيابية وتدفقا شعريا يتميز بالأسلوب الفني المتقن، واستخدام الصور الجمالية والتشبيهات والاستعارات، مما يمنح القصة بعدًا رمزيًا وإيحائيا بل وفلسفيا أكثر من السرد التقليدي.
ــ البعد الفلسفي في الأدب النسوي
ــ ولكون النصوص السردية الشعرية تميل إلى الانغماس في تأملات فلسفية وحالات وجدانية، حيث تُصبح الشخصيات والأحداث وسائل للتعبير عن حالات إنسانية ومعانٍ وجودية عميقة؛ فقد وضح هذا جليا في الاثنتي عشرة قصة التي حوتها المجموعة، وسأكتفي هنا بشواهد من ثلاث قصص فقط، (وهي القصص الأقصر طولا والأكثر عمقا): 1ــ قصة (ملامح): تحمل عمقا فكريا فلسفيا من خلال تناول رحلة الكتابة كوسيلة للتأمل واكتشاف الذات، وأن الحياة اليومية بتفاصيلها وضغوطها تترك أثرا سلبيا على صفاء النفس، تماما كما يتراكم الصدأ على المعادن، هذا التراكم يؤدي إلى ضبابية الرؤية وفقدان النقاء الداخلي، ومن ثم يتأمل النص في فلسفة الحياة عبر الكتابة، وهي الأداة السحرية التي تساعد الشخص على إزالة هذا الصدأ: “لم تكتشف حقيقة ذاتها إلا مع الكتابة…” (ص 18)، إذ أن ــ الكتابة تأتي كعملية تطهيرية وتأملية ــ تتفكك من خلالها الموروثات والعادات، وتختبر الفلسفات الحياتية المختلفة؛ وصولا إلى الصفاء والهدوء الداخلي، وعندها تهدأ العواصف وتُغسل النفس من شوائبها، هذه اللحظة تُشبه الكشف عن جوهر الحقيقة بعد مراحل طويلة من التفكير والتأمل والنقد الذاتي. 2ــ قصة (المحاولة): هذه القصة تعكس تجربة نفسية عميقة، تتناول الغربة بمفهومها الواسع: الغربة عن المكان، والزمن، والأشخاص، والأحلام، ويظهر فيها الحوار بين الأمل واليأس، وبين محاولات التواصل وبين الحواجز الخفية التي تظل تمنع الوصول الحقيقي إلى الآخر، فرغم أن البداية كانت لصوت يشجع على التفاؤل والأمل، ولكنه يواجه بردٍ يشير إلى محاولات قد لا تكلل بالنجاح: “(حاضر سأحاول) لا يعلم أن الكلمات وحدها لا تصنع مساحات الفرج والرضا” (ص 20)، ويظهر هنا نوع من الخوف الدفين من الفشل في تحقيق ما يتمناه الشخص، وكأن التفاؤل يصبح مجرد محاولة للمواجهة وليس شعورا حقيقيا، ويشير النص أيضا إلى دور الكلمات في صنع الاتصال، القاصر عن تحقيق التواصل الحقيقي: “الكلمات تصنع الاتصال، ولكنها غير قادرة على فعل التواصل” (ص 20)، أي غير قادرة على تحقيق التواصل العميق، وينعكس ذلك على وسائل (التواصل) الحديثة، التي تعتمد على الصور والأدوات التكنولوجية، والتي قد تعمق الإحساس بالغربة بدلًا من أن تخففها، وينتهي النص بأمل مرتقب يحقق نوعًا من الراحة: “نصفان لا يجمعهما إلا الصدف، فيتوارى التفاؤل على صفحات الانتظار، ومازالت تحاول” (ص 21)، وكأن هناك دعوة للصبر والإيمان بأن الأمل في اللقاء والتواصل الحقيقي قائما كنافذة مضيئة وسط ظلام الغربة. 3ــ قصة (وجه من قصة): تمتد هذه القصة في عالم مليء بالتساؤلات والتناقضات، حيث تتداخل المشاهد وتندمج الأفكار، التي تبدأ بتأمل في تفاصيل وجه أو منظر غامض: “نظرت في المرآة وجدت وجها آخر غيرها” (ص 40)، وجه يجمع بين إرهاصات التشتت والتفكر بعيون دامعة تتساءل عن المصير، وتشكل مشهدا من الصراع بين الماضي والحاضر، ثم ينتقل السرد إلى لحظة تأمل عميقة، حيث تتوقف الشخصية أمام المرآة، وتتراجع بذاكرتها إلى أيام الطفولة، ويتخلل المشهد شعور بالحنين والألم: “أجهشت بالبكاء لا تحب أن تعود لطفولتها وشبابها وأعتاب الشقاء وأبواب المسئولية” (ص 40)، وكأن المرايا تعكس ظلًا من طفولة مفقودة وأحلام تم وأدها، وهنا تجد الشخصية نفسها تُصلي بخشوع، وكأنها تبحث عن السلام الروحي والمغفرة: “وجهت نظرها وروحها استغفرت الله، وتوضأت، وصلت…” (ص 40)، وفي نهاية النص، تنظر في المرآة مرة أخرى، وكأنها تودع الماضي وتستعد لخطوة جديدة في طريق لا يخلو من العثرات، لكنه يحمل وعدا بإيجاد الذات من جديد.
إضاءات خاطفة على قصص المجموعة ــــــــــــ
لقد عبرت الكاتبة أ/ إيمان أحمد يوسف في جميع قصص المجموعة عن قضايا المرأة؛ من خلال لحظات تأملها وحيرتها في: “ملامح” (ص 17)، ومحاولة تعايشها مع الواقع في: “المحاولة” (ص 19)، وسعيها لتحقيق النجاح من خلال التخلص من المعوقات التي تعرقل مسيرتها في: “تصالح” (ص 23)، وعلى الرغم من إحساس المرأة بالصعوبات في موازنة حياتها، بين عملها وبين مسؤولياتها الأسرية، فقد سعت لأن تكون جزءًا من المجتمع الثقافي في: “شلالات الحقائق” (ص 27)، ومعبرة عن دورها الثقافي والاجتماعي في: “أمسية” (ص 69)، وحنينها إلى الماضي والارتباط العاطفي العميق بين الأجيال ممثلا في العلاقة بين الجدّة وحفيدتها، وحالة التوتر بين التمسك بالجذور والتقاليد وبين التحولات الاجتماعية التي تفرض نفسها على الأفراد، في: “هو” (ص 45)، وشعورها بحجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها، والدور الاجتماعي الذي يُبرز صورة قوية للمرأة العاملة والمكافحة في مجتمع تقليدي في: “هي والقاهرة” (ص 55)، وعلى الرغم من معاناتها الجسدية والنفسية، فإنها تظل تبذل قصارى جهدها لتأمين مستقبلها ورعاية أفراد أسرتها في: “الجميلة” (ص 63)، ورغم كل هذا يظل القلق يراود المرأة وهي تتجرع مرارة الحب الضائع ولوعة الانتظار في: “أجنحة البحر” (ص 91)، إنه البحر الشاهد على قصة حب البطلة، وهو الحبيب الصامت الذي تشاركه أسرارها وأحزانها؛ فهو المأوى الروحي الذي يلجأ إليه القلب المثقل بالذكريات. وهي ــ قبل هذا وبعده ــ تؤكد على حقيقة أن العودة إلى الموسيقى وإحياء الهوايات القديمة قد تكون خطوة نحو تحقيق السلام النفسي والسعادة الحقيقية، بعيدًا عن الهموم والأحزان وضغوط الحياة والروتين اليومي، وهو ما منح البطلة طاقة جديدة وحياة مليئة بالشغف والفرح في قصة: “الجنة في الحجرة” (ص 31)، حيث: “اكتشفت أن السعادة هنا مع الموسيقى”؛ وحينئذ: “تمسكت بالحلم الذي أصبح حقيقة…” (ص 38).
ــــ بصمات الكتابة النسوية في أعمال أدبية عالمية
وهكذا جاءت قصص هذه المجموعة معبرة عن قضايا المرأة وتجاربها الحياتية من منظور نسوي، يجسد مشاعر الأنثى في مراحل ومواقف مختلفة؛ مما ساهم في خلق تجربة قراءة فريدة تُلامس العواطف وتنير جوانب متعددة من العلاقة الإنسانية؛ وهو ما يمكننا من اعتبار “بكاء الشجر” أنموذجا مصريا للأدب القصصي النسوي، يماثل أعمالا روائية نسوية عالمية مثل: رواية “الغرفة الخاصة” للكاتبة البريطانية فرجينيا وولف التي قدمت في روايتها نقدًا لاذعًا للقيود الاجتماعية التي تُفرض على النساء، ودعت إلى المساواة بين الجنسين. وكذلك رواية “المراة المُحاربة” للكاتبة النيجيرية شيماماندا نجوزي أديشي التي كشفت في روايتها عن تجارب النساء الأفريقيات وكفاحهن ضد الاستعمار والتمييز الجندري (التفرقة أو الاستبعاد أو التقييد على أساس الجنس).
ـــــــ العلاقة بين الصورة المرئية والقصص المروية
ــــــ صورة الغلاف تعبر بشكل فني وعميق عن موضوعات المجموعة القصصية من خلال لوحة تجريدية ذات ألوان هادئة تجمع بين الأشجار والخلفية، التي تبدو وكأنها امتداد للسماء والطبيعة، مما يضفي إحساسًا بالتعاطف الإنساني مع رمزية الشجر ككائن حي، يحكي رحلة الإنسان في الحياة، ويستشعر الألم ويذرف “الدموع”. ولا شك أن التداخل التجريدي في عناصر اللوحة يعكس الشعور بالزحام والاختناق، وهو ما يعزز الشعور بالاغتراب، نتيجة تعرض الرقة للقهر، والنضارة للقسوة، كما أن الألوان جاءت على نحو يوحي بالشاعرية المتأثرة بالطبيعة، والمعبرة عن مشاعر الحزن والأمل في آن واحد، وهو ماظهر جليا في قصص المجموعة التي زاوجت بين السرد الشعري والنثري، مما خلق تواصلاً حميميا بين القصص المروية والصورة المرئية، وهكذا تم توظيف الغلاف كمدخل بصري للقارئ، محفزا له على الغوص في عمق النصوص، واستكشاف الحالات الشعورية التي تحملها قصص المجموعة.
ـــ كلمة أخيرة ــــ
ـــ إن المتتبع لإبداعات الشاعرة والكاتبة أ/ إيمان أحمد يوسف يلاحظ أنها بدأت رحلتها الإبداعية عام 1992 بديوان مشترك (عرايس الشعر) صدر عن مديرية الثقافة بالإسكندرية) ثم ديوان (تنهيدة صبية) صدر عن الهيئة العامة للكتاب 1994 وفي ذات العام صدر لها ديوان (مشاعـر) عن هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ثم ديوان (وشوشة البحر) عن ذات الهيئة عام 1997، ثم ديوان (لحن الحنين) عام 1998، ثم في ذات العام أصدرت ديوان (مصر جنة بتبتسم)، ثم ديوان (يافرح صاحبنى) ثم ديوان (أنيس قلبي) عام 2000، ثم في ذات العام ديوان (أحضان السنين)، ثم ديوان (النيل واعدني) عام 2002، ثم ديوان (احتواني الانتظار) عام 2006 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم أصدرت أولى مجموعاتها القصصية بعنوان (صباح الميدان) عام 2013، ثم عاودها الحنين إلى الشعر فأصدرت ديوان (متغربة جوه الوطن) عام 2014 طبعة أولى و2017 طبعة ثانية، وأصدرت مجموعة قصصية للأطفال عام 2015 بعنوان (حكايات ماما إيمان)، ثم زاوجت بين الشعر والسرد والفصحى والعامية في (إطلالة على الاسكندرية) عام 2018، ثم عاودت الكتابة القصصية بهذه المجموعة (بكاء الشجر) التي صدرت في طبعتين الأولى عام 2018 والثانية عام 2023، ثم عاودها الحنين للشعر؛ فأصدرت هذا العام 2024 ديوانها (قلمي علمته الشجاعة)، وهي تُعد حاليا عملا روائيا ليكون نقلة نوعية في مسيرتها الإبداعية كشاعرة وقاصة ثم روائية، وفوق كل هذا إنسانة راقية متألقة، صاحبة رسالة أدبية وإنسانية، وهو ما تستحق عليه التقدير والاحترام، وترقب المزيد والمزيد من إبداعاتها الجديدة المتميزة.